منذ بداية الحرب على قطاع غزة، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بخطواتٍ معقّدة ومكثّفة لإلقاء اللوم على الأجهزة الأمنية والعسكرية بسبب فشل السابع من تشرين الاول، وبعد ذلك لعدم تمكُّن الجيش من تحقيق الأهداف السياسية التي رَسَمَها هو منذ بداية الحرب.
إلا أنه اتخذ قراراتٍ لاحقةً عدة بتدمير غزة واحتلال أجزاء كبيرة منها في شكلٍ ظرفي من دون إبقاء القوات فيها ما عدا في محوريْ نتساريم وفيلادلفيا وحافَظَ على جاهزية قواته في الضفة الغربية المحتلة وعلى الجبهة الشمالية الحدودية مع لبنان وسورية.
على الجبهة اللبنانية، يُطْلِقُ المسؤولون الإسرائيليون التهديدات المتتالية بحربٍ كبرى تتحضّر بالتزامن مع مناوراتٍ تَستهدف حدود الدولتين اللبنانية والسورية مع ترويجٍ لاحتمالِ تَقَدُّمٍ بري يَقطع طريقَ الإمداد على لبنان، وذلك لفرْضِ واقعٍ جديدٍ يستطيع الإسرائيلي التفاوضَ من خلاله على عودة المستوطنين إلى مناطقهم المدمّرة أو المتضرّرة التي نزحوا منها تحت وطأة آلاف الضربات التي قام بها "حزب الله" دعْماً لـ "طوفان الأقصى".
فهل من واقعيةٍ لهذا السيناريو، مع الأخذ في الاعتبار أن لا شيء مستحيلاً بالمطلق في عِلم الحرب؟
فقدت إسرائيل بوصلتَها منذ 11 شهراً من القتال على جبهاتٍ عدة بسبب فشلها في اتباع إستراتيجيةِ النصر التي استبدَلها نتنياهو بإستراتيجية الصبر إلى حين انتخاب رئيس أميركي جديد في الشهرين المقبلين، ليتبيّن له الخيط الأبيض من الأسود في ما يتعلق بالحرب الدائرة ومستقبله السياسي.
وقد نجح نتنياهو في استغلال غلّ يديْ الإدارة الأميركية الحالية التي فشلتْ في استخدام ما تبقى لها من سلطة لفرْضِ نهاية الحرب ودفْع الضرر الانتخابي الذي من الممكن أن يَنتج عن أي خطوةٍ يتخذها الرئيس الديمقراطي جو بايدن ومن الممكن أن تُفسّر كسحْبٍ لبساط الدعم الأميركي لإسرائيل، وهي سياسة تقع في صلب الأمن القومي الأميركي لأسباب عدة، دينية واقتصادية وسياسية وعقائدية نفوذية.
إلا أن نتائج الانتخابات الأميركية ستفرض واقعاً جديداً سيشجع نتنياهو، إما على إكمال الحرب بمساعدة أميركية مطلقة، وإما فرْض وقْفها فوراً والكف عن المراوغة.
ولم يفشل نتنياهو في تحقيق "النصر المطلق" فقط، بل أعلنت القيادة الإسرائيلية أن حركة "حماس" استطاعت استقطاب 3000 مُقاوِم جديد في صفوفها لينضموا إليها في الشمال الغزاوي المدمّر.
وهذا يدحض ادعاء وزير الدفاع يوآف غالانت الذي صرّح بأن "المهمة استُكملت في غزة" في حين لم تُدمّر "حماس" أو يُستعاد المخطوفون.
وهذا التصريح ليس مستغرَباً، لأن نتنياهو لا يشاور وزير دفاعه ويتخذ القرارات من دون الأخذ برأيه ولا يهتمّ بما تقوله القيادة الأمنية والعسكرية.
كذلك أعلن غالانت - وليس نتنياهو - أن "الثقل العسكري سينتقل إلى الشمال"، حتى ولو كانت مازالت تتواجد في غزة الفرقة 98 مظليون وكوماندوس والفرقة 162 مدرعات، وهما أقوى فرقتين والأكثر خبرة قتالية من أصل ثلاثة تمثّل القوة الاندفاعية والهجومية للجيش الإسرائيلي.
ومما لا شك فيه، أن التراشق الناري توسّع في الأسابيع الأخيرة على الجبهة اللبنانية، ولكنه أبقى الحرب الدائرة ضمن قواعد الاشتباك المرسومة منذ بدايتها، وهو لا يدلّ على أي حرب توسعية تتحضر في الأفق.
وتقول مصادر مطلعة، لـ"الراي" الكويتية، إن "من غير المستبعد - ولا المؤكد - أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية كبيرة بعيدة عن أي اجتياح بري، بل معتمدة على القوة الأساسية الجوية في الجيش الإسرائيلي".
وتعتقد المصادر أن "هناك تياريْن داخل القيادة العسكرية: تيار يعتقد أن حزب الله يستطيع إلحاق خسائر بالمعسكرات والمباني والأهداف العسكرية بمعدّل تدمير هدفيْن لإسرائيل مقابل كل 10 أهداف تُدمّر لحزب الله. وتالياً، فإن هؤلاء يعتقدون أن بإمكان سلاح الطيران قصْف وتدمير ما مجموعه 13000 هدف من تموضعات ومكاتب وقيادات وأفراد وأهداف نقطية ومعسكرات تُعيد حزب الله وقدراته سنوات إلى الوراء من دون الحاجة للمساس بالمدنيين من الطرفين".
وهناك تيار آخَر يتساءل، بحسب المصادر، "ماذا لو فشلْنا في تدمير قدرات كبيرة لحزب الله ودفعْنا ثمناً باهظاً حتى ولو انتقلت قواتنا من المعسكرات المعروفة إلى نقاط أكثر تحصيناً؟ ماذا لو استخدم حزب الله قدراته الصاروخية والمسيّرات التي لم تُستخدم في هذه الحرب حتى اليوم وتسبّبَ بأضرار هائلة تَفتح شهية أعداء إسرائيل - أو حتى حلفائها - الذين سيرون فيها ضعفاً لم يَظهر من قبل وأعطى قوة فائضة لحزب الله وسمعته؟ وهل تستطيع إسرائيل جباية الثمن أم أن حزب الله، سيجبي الثمن بعد المعركة ويحول التهديد فرصة"؟
ووفق المصادر لـ"الراي" الكويتية، فإنه لم يُتخذ قرارٌ إسرائيلي نهائي وحاسم لغاية اليوم يَتفق عليه القادة، حتى ولو كانت مسألة إشعال جبهة لبنان لمستوى تدميري أكبر تَخدم أهداف نتنياهو بالإبقاء على إسرائيل في حال حرب متواصلة. فلا قرار عسكرياً قاطعاً لأن الجيش لم يصل بعد إلى مرحلة تأمين تغطية نارية مكثّفة لقواته وقواعده في العمق ولم يطمئنّ لمستوى حجم الردع الذي يملكه ضد الصواريخ والمسيّرات كخطوة إستراتيجية ضرورية لمواجهة الحزب وتوسيع المعركة.
فجبهة لبنان ليست نزهة خصوصاً أن جبهة سوريا لا تقل أهمية عنها. ففي سورية قوات خاصة وصاروخية، لبنانية (وإيرانية) توازي القوات الموجودة في لبنان.
وهناك قرار قاطع باستعداد هذه القوات للمشاركة في الحرب بموافقةِ القيادة السورية وعدم ممانعةِ روسيا إذا شنّت إسرائيل "الحرب الكبرى" (جواً) على لبنان.
فسوريا هي الممرّ اللوجستي الأساسي للحزب وهي مركزٌ لتصنيع الصواريخ المتعددة مثل "الفاتح 360" متوسط المدى و"الفاتح 110" بعيد المدى وصواريخ "سكود" المتطورة و"البركان" وغيرها.
ولذلك هي تُستهدف من إسرائيل في شكل متواصل وكان آخِرها ضرب بعض المصانع الصاروخية في مصيف حماة ومناطق أخرى والتي جعلت من دمشق شريكاً أساسياً في معركة "طوفان الأقصى".
وقد وصلت سوريا لخط إنتاجٍ مرتفع مع امتلاك مصانعها المواد الأوّلية والصناعة المتطوّرة والمعرفة لتصدير مئات الصواريخ التي تحتاج إليها المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي تقصف إسرائيل من حدودها الشمالية، خصوصاً أن استهلاك هذه الصواريخ والمسيّرات يُعد بالآلاف.
وهذا ليس بجديد على دمشق التي كانت سلّمت الحزب صواريخ استخدمها في حربه عام 2006 وكتب عليها "صُنع في اللاذقية" وأظهرتْها إسرائيل حينها معترضة على التدخل السوري المباشر في دعم "حزب الله". إلا أن تل أبيب لم تكن لتجرؤ حينها على ضرب سورية، على عكس اليوم.
أما أي سيناريو باجتياح إسرائيلي من خلال الجهة السورية (أو اللبنانية)، فهو غير واقعي لان الجبهة محمية ومؤهّلة للتصادم مع القوات الغازية وملاقاتها كما هي حال جبهة لبنان.
وتالياً، فإن قرارَ إدخال قوات إسرائيلية راجلة ومؤلّلة إلى أي من الجبهتين مستبعَد جداً.
إن قرار الحرب والسلم بيد نتنياهو الذي لا يرغب بالانتحار من خلال مواجهة برية، بل الإبقاء على معركة التراشق حتى ولو اشتدّت وتيرتها وغطّت كامل جنوب وشمال نهر الليطاني وكذلك بعض الأهداف داخل العاصمة بيروت وضواحيها إذا ذهب نحو توسيع دائرة الاستهداف.
وأي توسع للحرب اليوم لا يخدم المرشحين للرئاسة الأميركية بسبب مزاج الناخبين العرب – الأميركيين. ولذلك فإن حرباً واسعة على لبنان وسوريا بعيدة في الوقت الراهن ريثما تتهيأ ظروف أفضل لنتنياهو أو يَعدل عن أفكاره التوسعية ويُنْهي الحرب على غزة في الوقت الذي يناسبه سياسياً.