على خُطى

منذ التجمعات البشرية الأولى، وَجَد الإنسان نفسه في حاجة ماسة إلى تشييد منظومة صارمة من القواعد الأخلاقية كي يؤسس لفضاء اجتماعي محفز للحياة الجماعية بين أفراده، ويصون ويرشد علاقاتهم التواصلية، ويمنع تدافعهم السلبي.

وفي سبيل هذه الغاية، حرصت الجماعات البشرية، بمختلف ثقافاتها ومعتقداتها، واختلاف زمانها ومكانها، على إيلاء رعاية خاصة لربط أفرادها بالمبادئ والقيم الجماعية، وتشكيل وشحذ ترمومتر الأخلاق الذاتي أو ما تُسميه الدراسات النفسية بـ”الغريزة الأخلاقية” التي عن طريقها يتم التمييز بين ما هو “جيد” و”غير جيد”، “أخلاقي” و”غير أخلاقي”. وتعمل هذه الغريزة ككونترول داخلي/خارجي، على طول الوقت، في الخفاء والعلن، وعلى ضوئها يتحدد سلوك الأفراد، وتتحفز مشاعر الذنب لديهم بشكل تلقائي تجاه أيّ انتهاك للقواعد الأخلاقية، مما يؤدي إلى كبح جماح النزعات السيئة/المؤذية والسلوك اللاأخلاقي.

كانت للطفرة التكنولوجية وما صاحبها من تأسيس عوالم افتراضية موازية، تبعات كبيرة على منظومة الشعوب والجماعات القيمية. وتأتي هذه التحديات من كون هذه العوالم عملت على إذابة الحدود الثقافية بين الأمم والجماعات، ونشرت الكثير من القيم والمعايير والعادات المعولمة من جهة. ومن جهة أخرى وفّرت فضاءات افتراضية للأفراد يستطيعون من خلالها التحايل على منظومات الضبط المختلفة. وفي ظل هذا السياق الذي سمح بالتخفي والاختباء وراء أقنعة التواصل والتفاعل المستعارة، لن يقف في وجه المرء سوى رادعه الذاتي (الضمير). ولهذا السبب، دارت نقاشات كثيرة على المستوى الرسمي والشعبي، الأكاديمي والعام، حول الآثار السلبية لهذه العوالم الافتراضية المفتوحة، وكيفية تطوير آليات ومنظومات ناجعة لمجابهة أضرارها.

تنتمي ظاهرة “الذباب الإلكتروني” إلى هذا السياق الذي بات يطرح تحديات مهولة أمام الدول والمجتمعات في تهديده السافر لمنظومتها الأخلاقية، ولأنظمة الضبط، وتسميمه لفضاء التواصل العام بين الأفراد والجماعات والشعوب، وتدميره لعرى التفاعل الإيجابي.

من جوانب كثيرة، طريقة النشأة والأدوار التي تقوم بها، تبدو ظاهرة الذباب الإلكتروني أقرب إلى اقتفاء أثر التيار الذي عُرِف في الوطن العربي بـ”تيار الصحوة” خلال النصف الأخير من القرن العشرين، وهيمن على الفضاء العام سنوات طويلة، ربما الاختلاف الوحيد هو في عوالم ووسائل النشاط الواقعية والافتراضية. كانت لتيار الصحوة بنية تنظيمية سرية/غير مرئية تقوم برسم الخطط وتوجيه/تدجين الأفراد، واستحوذ على المنابر الأكثر التصاقًا بالناس. وفي غضون وقت قصير، تجاوز بكثير قدرة الوسائل الرسمية على الوصول إلى قلب المجتمع. ولاحقًا، شكل تحديات وتهديدات كبيرة للدول، وكانت نتائجه الكارثية بعيدة الحدود.

من حيث المضمون، تتشابه ظاهرة الذباب الإلكتروني مع تيار الصحوة في أن كليهما يعمل على ضرب القواعد الأخلاقية للمجتمع، فتيار الصحوة كان يقوم بتسفيه هذه القواعد وتحقيرها بدعوى “جاهليتها” في سبيل فرض نمط سلوكه، بينما يعمل الذباب على تعميم كسر هيبة هذه القواعد والمبادئ الضابطة للممارسات العامة وتعميم السلوك السيء (ولا غرابة أن يكون هناك ارتباط وثيق بين تيار الصحوة وظاهرة الذباب الإلكتروني). فمثلًا يتوافق المجتمع على أن الكذب والتزوير والتحايل سلوكيات غير أخلاقية ومنبوذة في ذاتها، وبشكل مطلق، حتى وإن كانت لها نتائج/غايات إيجابية حتى لا يمنحها أي شرعية أو شرعنة. يختلف الأمر لدى هؤلاء، ففي سبيل أهدافهم يحق للمرء الكذب والتلفيق والتزوير والتحايل، حتى وإن كان في سبيل أهداف وغايات غير سوية كالتشويه والابتزاز وكسر إرادة الآخرين وتعطيلهم، وبالتالي ووفقًا لهذه الحالة لن تكون هناك قيم ومبادئ موجهة تمنع أو تجرّم السلوك السيء، فالقيم وإن تم الادعاء بها وإشهارها في وجه الآخرين، تتحول إلى مجرد وسيلة للمقايضة، والوسيلة تبرر الغاية في الغالب، والغاية في هذا السياق متحررة من الاستناد إلى أيّ أبعاد أخلاقية.

إن “السلوك الجيد” يقوم على عملية طويلة ومتواصلة من التربية والتنشئة، والحرص على تعزيز حضور الوازع الأخلاقي عن طريق تفعيل المنظومة القيمية الشاملة، وصيانتها باستمرار. وهي بطبيعة الحال منظومة ليست جامدة، بل قابلة للتطوير وفق مقتضيات ومنظورات ضوابط “السلوك الجيد” لكل زمان ومكان. الخطورة التي تمثلها ظاهرة الذباب الإلكتروني ليس في أنها تستغل تحرر الأفراد الذين ينشطون افتراضيًا وعن طريق حسابات مستعارة من الروادع العامة عند انتهاك القواعد الأخلاقية فحسب. خطورتها الأكبر تكمن في تدميرها لكل الشروط التي تعزز من عملية الضبط: إهانة قواعد المكافأة والمعاقبة الرسمية والشعبية، المادية والمعنوية، المترتبة على ما يُعرف بـ”كلفة السلوك”، والتي تعمل على مكافأة السلوك الجيد، لنكون أمام حالة يتم فيها تبرير، بل وتكريم السلوك السيء، فضلًا عن تعزيز قوانين المقايضة على طريقة العين بالعين والسن بالسن، ولكنها في صيغتها السلبية الحادة، وفي نهاية المطاف سنكون في فوضى أخلاقية لا نهاية لها.

إن استمرار ظاهرة الذباب الإلكتروني يعني إفساح المجال لها لكي تصبح قوة منفلتة وغير ملتزمة أو مقيدة بأيّ مبادئ أو قيم أخلاقية، وهذا يعني أيضًا بأنها ستغدو مؤهلة تمامًا للخروج عن السيطرة في أيّ وقت، وتتحول إلى أداة تخريبية تعمل ضد مجتمعاتها ومصالح دولها، كما كان الحال مع تيارات الصحوة!

العرب

يقرأون الآن