القيادات السعودية.. شدة المراس ورقة الإحساس

مع العيد الوطني السعودي، أستذكر اثنتي عشرة سنة قضيتها في الرياض، حاملاً مسؤولية الإشراف على مسار مجلس التعاون، منذ ولادته في مايو 1981، ملازماً له في شبابه، متواصلاً مع مختلف الوزارات السعودية والخليجية، لتأمين نجاح المشروع التاريخي، الذي اتخذه قادة دول الخليج، مرتاحاً لحجم إيمان المملكة في تشييد صرح تاريخي، تنفيذاً لرؤية هذه القيادات، وتقديراً من الرياض لثقة زعامات الخليج بالهمة السعودية لتأكيد انطلاق العمل وفق تصورات القادة، وفوق ذلك، تأمين كل الاحتياجات الضرورية لبناء مقر يتناسب في حجمه ومحتوياته مع المأمورية التي يحملها المجلس.

كان عزم المملكة لتحقيق المتطلبات عنواناً لإرادة القيادة السعودية لانطلاق العمل بأسرع وقت، وبكل الآليات المتوفرة.

وهنا تبرز ملامح النهج السعودي في الوفاء للمهمات مهما كانت أشواكها، ومهما ثقلت موازينها، وشعرت بأن مسار فصل التأسيس يحمل عزم قيادة المملكة على إعطاء المجلس جميع مستلزمات النجاح، وكان المرحوم الأمير سعود الفيصل اللامع في الدبلوماسية، يتابع متسائلاً عن التفاصيل، مترجماً حرص القيادة على الكمال.

كانت الحصيلة تصاعد الاطمئنان بأن المجلس ومستلزماته يحظيان بكثير من الاستثنائية في سجل الاهتمامات القيادية، الأمر الذي ساهم في سرعة الانطلاق، التي توافرت بجهد سعودي جماعي، من الديوان الملكي، ومن الأمير سعود، ومن وزير المالية الشيخ محمد أبا الخيل.

وفرت السنوات، التي قضيتها في المملكة، مجالاً واسعاً للتأمل في تاريخ المملكة منذ البداية، وتطوراتها في الدولة السعودية الثانية، وصراع الطموحات بين الإخوان والأقارب، والمجيء إلى الكويت لفترة أتاحت للقيادة اتساع التواصل مع القوى العالمية، لاسيما بريطانيا، ومنها تصاعد حجم الخبرة السياسية والدبلوماسية، التي كسبها الملك عبدالعزيز بن سعود خلال تواجده في الكويت، وتمت العودة إلى الرياض عام 1902 منتصراً، ومواصلاً المسار، الذي بدأه مؤسسو الدولة السعودية الأولى، ومنطلقاً في انتصاراته ضد الخصوم، ومعلناً اكتمال البناء، الذي جسده إعلان المملكة العربية السعودية عام 1932.

تاريخ المملكة العربية السعودية رواية مثيرة، برزت فيها قيادات ساطعة في شجاعتها، وقيادات متفوقة بطموحاتها، وآخر هذه القيادات المؤسسة كان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ومن يقرأ تاريخه يحمل العجب من سجل تسلسل انتصاراته، التي جاءت من مؤهلات نادرة، الصبر المرهق، والجرأة المندفعة بالإيمان، والتضحية للمبادئ، والعدالة في التعامل، والتسامح عند الشدة، وأعطاء الجزاء لمن يستحق، وفوق كل ذلك، حقق نجاحاً مذهلاً من دون خداع في الأسلوب، حملته الهمة إلى استعادة ما كان لأجداده، ورغم انتصاراته، وتمكنه من استعادة الرياض، ظل التواضع رفيقه، والعدل محركه، والتسامح بهجته، ولم يكن من دعاة العنف في خلافاته مع مناصريه، الذين حاربوا معه، وعارضوا نهج السلام، الذي تبناه مع خصوم الأمس.

هذه المناقب، التي صاحبت الملك عبدالعزيز، تحولت إلى صيغة في فنون التعامل السعودي، فالحزم يظهر عند المخاطر، والكرم يغذي التآلف، والعفو جوهر التسامح، والتفاهم نهاية التخاصم، والترفع صون المقام.

والحقيقة ان هذه اللائحة من المناقب ظلت القاعدة الأساسية للدبلوماسية السعودية، لاحظتها في ما بعد في الأمم المتحدة، وتعرفت على محتواها في حياتي مع المجلس.

وألمع ما شدني الوفاء وأنا ابن الكويت، أحفظ مسار الوفاء تجاه الكويت، ففي عام 1938 يستدعي الملك عبدالعزيز السفير البريطاني المقيم في جدة، الذي ظل في طريقه إلى الرياض أياماً، ومع لقائه مع الملك، طلب منه إبلاغ لندن بضرورة سحب العراق قواته من الحدود الكويتية، وإذا لم يتم ذلك فله خياراته، ويتم ما أراده الملك، الذي أرسل ابنه سعود إلى الكويت في عام 1939، مجدداً تأييده للشيخ أحمد الجابر خلال أزمة المجلس التشريعي.

ويحمل الملك سعود حقوق الوفاء بكل أمانة مع ادعاءات رئيس وزراء العراق بتبعية الكويت، ويرسل قوة من ألف جندي بأوامر المواجهة وإطلاق النار، ويثير تهديدات العراق مع الرئيس جمال عبدالناصر، مع إصرار على عضوية الكويت في الجامعة العربية بأسرع وقت، ويتعاظم الترابط السعودي ــ الكويتي، وفي كل الزوايا، وتنضم المملكة إلى جانب الكويت في وجه صدام حسين بمؤامرته وخداعه ويتم الغزو، ونجد في المخفر السعودي على حدود الكويت مبعوث الملك، أمير الشرقية، محمد بن فهد، يشرف على توفير كل الإمكانات لأمير الكويت وحكومته، وتبدأ فصول الإعداد للتحرير بحشد إسلامي جماعي برعاية المملكة، واستقبال الحلفاء في عزمهم على تنفيذ قرارات مجلس الأمن لتحرير الكويت، ويتحقق كل ذلك، بابتهاج عالمي وتعاطف مع الكويت، ورفض أسلوب وأطروحات العراق البليدة، كل ذلك جرى على أراضٍ سعودية، بتسخير سعودي لكل ما لديه، ويفي بالعهد الذي تبناه الملك فهد وحكومته، ونعود إلى بلدنا بقيادة أميرنا العائد من الطائف وفق أحكام الضيافة السعودية.

هذه ملحمة يرويها التاريخ، ويستحضرها شعب الكويت الواعي لمخزون الوفاء، الذي يحمل تاريخ آل سعود في احتضانهم لآمال أهل الكويت في أمن وطنهم.

في عام 1965، قام أمير الكويت الشيخ صباح السالم بزيارة رسمية للقاهرة، كانت الظروف مناسبة ليقترح أمير الكويت على الرئيس جمال عبدالناصر السماح للكويت لبذل المساعي الحميدة لإنهاء أزمة اليمن، فرحّب الرئيس جمال بهذه المداخلة، لعل الله يحقق فيها ما يتمناه الجميع، وتولى الشيخ صباح الأحمد الاتصالات، كان الشيخ صباح يملك مكانة خاصة لدى الرئيس المصري، واثقاً بصفاء منابع عروبته، وبالطبع فهو أيضاً رجل ثقة واطمئنان لدى الملك فيصل، وهكذا تحمّل الشيخ صباح ألأحمد أثقال المأمورية، فبعد لقاء مع الملك فيصل، الذي أظهر التقبل مع وضوح صلابة الموقف، ومع التواصل جاء الاتفاق على لقاء الخبراء في اجتماع الكويت، وبعد شد ولين جاء كل من حسن صبري الخولي، ممثلاً للرئيس جمال عبدالناصر، والدكتور رشاد فرعون ممثلاً للملك فيصل، كنت أنا وأحمد الأيوب القناعي نشرف على الترتيبات، ورغم تواصل اللقاءات فإن الفريقين لم يتوصلا إلى مشروع يقبله الطرفان، لكن الحصيلة لم تعطّل انطلاق الشيخ صباح، الذي واصل الزيارات.

كان الملك فيصل يحتاج إلى تعهدات بالتزام مصر بعدم التدخل في اليمن إذا تم الاتفاق، وكذلك الرئيس المصري لا يصدق بأن المملكة ستظل تتفرج على انسحاب الجيش المصري، وإنما ستحرك الطرف اليمني الآخر، هكذا كان الوضع في منتصف عام 1966، ومن هذه الجهود أراد الشيخ صباح أن يدفع بلقاء بين الزعيمين يتم في الكويت، بعد فشل جميع المحاولات، ويقرر طرح اللقاء على الرئيس عبدالناصر، في لقاء تم في أغسطس 1966 في مدينة الاسكندرية.

ذهب الشيخ صباح الأحمد، ومعه السفير حمد الرجيب، وأنا كمدير لمكتب الوزير، بينما كان الرئيس جمال عبدالناصر في مزاج سلبي منذ البداية، حيث طرح الشيخ صباح الأحمد فكرة الاجتماع شارحاً فوائده، ومشيراً إلى إخفاقات الخبراء في تحضير جدول أعمال مقبول للطرفين، وعند إلحاح الشيخ صباح على ضرورة الاجتماع، كان رد الرئيس عبدالناصر سلبياً جداً، ومعبراً عن عدم ثقته بفوائد اللقاء، ويردد بأن اللقاء مع الملك فيصل يفيد الأخير، ولا يحقق شيئاً للجانب المصري، مع ترديد عبارات لم يتقبلها الشيخ صباح، فانتهى الاجتماع، ومنذ ذلك التاريخ تصاعدت سرعة الانحدار إلى هزيمة الخامس من يونيو 1967.

شعرت بأن الاستراتيجية السعودية في اليمن لا تسعى إلى منافع تكسبها، وإنما تريد الوقاية من التحرش بالنظام السياسي والاجتماعي في المملكة، حيث كان الجيش المصري يهدّد أمنها، وكان الرد بالمواجهة واستنفار الهمة السعودية، وما رافقت حملة مؤسس الدولة منذ البداية، من شجاعة وإقدام في المواجهة لصد التهديد، وحشد كل ذلك، وهذا مستوحى من الإيمان بصوت الدعوة المحمدية لصد الباحثين عن مكاسب في الدنيا على حساب حقوق الآخرين.

تاريخ آل سعود، ورغم البشاشة السياسية، ونعومة الترحيب وغزارة السخاء، فإنه كان مزيجاً من المواجهة والاقتتال عند الشدة، إذا ما مسّت كرامة النظام، شهدناها في الغزو، ولمستها عند الملك فيصل في لقاءاته مع الشيخ صباح، التي كنت أعد محاضرها، وفوق ذلك، تأتي مفاجأة المروءة والأريحية للإنقاذ، كما شهدناها في مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة 1967، ودور الملك فيصل في طرح خطة للإنقاذ بتبرّع سنوي بمبلغ خمسين مليون جنيه، انضمت إليه الكويت مساندة ومؤازرة.

أكتب مهنئاً القيادة السعودية والشعب السعودي، متأكداً من أن المملكة ستواصل تحمّل الكثير من التبعات لمصلحة الآخرين في العالم العربي والإسلامي والإنساني.

مبروك للمملكة، قيادة وشعباً، ولنا أيضاً، فهي الظهر المساند والصامد.

الاتحاد

يقرأون الآن