في 14 شباط/ فبراير 2005، هزّ بيروت انفجار هائل أودى بحياة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وعدد من الأشخاص الآخرين. شكّل هذا الاغتيال، وهو إحدى أحلك اللحظات في تاريخ لبنان، نقطة تحوّل في بلد كان يعاني أصلاً من عدم الاستقرار السياسي.
وبعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمن، يرصد الفيلم الوثائقي "من قتل رفيق الحريري؟" الذي تبثه قناة "العربية"، بدقة النتائج والشهادات والمؤامرة التي كانت وراء مقتل الحريري، مقدماً نظرة ثاقبة تقشعر لها الأبدان عن القوى التي سعت إلى إسكاته.
الوثائقي الحصري، يكشف لأول مرة، تفاصيل عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، ويتتبع بيانات اتصالات هاتفية لأشخاص تورطوا في عملية الاغتيال، الأمر الذي يرسم حجم المؤامرة التي أحاطت بعملية الاغتيال.
يأخذ الوثائقي المشاهدين في رحلة مروعة عبر الأحداث التي سبقت الاغتيال، والتحقيق، والاكتشاف النهائي لمؤامرة معقدة هزت لبنان وترددت أصداؤها في جميع أنحاء العالم.
أمة في صدمة 14 شباط/فبراير 2005
كان من المفترض أن يكون يوماً للحب والاحتفال في بيروت، حيث احتفل الأزواج بعيد الحب. ولكن بدلاً من ذلك، حوّل انفجار مروّع شوارع المدينة إلى ساحة حرب. وصف الشهود الفوضى الفورية - انقلبت السيارات وتحطمت المباني وتناثرت الجثث. "سمعنا أن العالم كان يهتز"، كما روى أحد الشهود، وهو يكافح لوصف الدمار الهائل.
كان رفيق الحريري، رمز الأمل والوحدة اللبنانية، قد مات. فقد استُهدف موكبه الذي كان يسير بالقرب من فندق سان جورج، بقنبلة هائلة، مخلفًا حفرة بعرض 10 أمتار، ومقتل 22 شخصًا على الأقل، بمن فيهم الحريري. وقد أحدث اغتياله صدمة في لبنان، البلد الذي لا يزال يتعافى من حرب أهلية وحشية دامت 15 عاماً.
وصف أحد شهود العيان، الذي كان موجودًا بالقرب من الموقع، المشهد في الدقائق التي تلت الانفجار: "أمسكت بها وصعدت من السطح وقفزت إلى الأرض. كانت الدماء في كل مكان. كنا نحاول أن نفهم ما حدث، لكن لم يكن لدينا سوى ثوانٍ فقط للتصرف". كانت تلك اللحظات بداية مأساة ستدخل لبنان في صراع طويل الأمد من أجل العدالة.
محققون على مفترق طرق: تجميع الأحجية
شهدت الفترة التي تلت التفجير مباشرةً سباقًا محمومًا لكشف الحقيقة. تم استدعاء خبراء دوليين لمساعدة المحققين اللبنانيين. وبدأت فرق الأدلة الجنائية في تمشيط مسرح الحادث بحثًا عن أي دليل يمكن أن يفسر كيفية تدبير مثل هذا الانفجار القوي في قلب بيروت.
وجاء الإنجاز الأول باكتشاف شظية صغيرة من شاحنة ميتسوبيشي صغيرة، وهي السيارة التي استُخدمت لنقل المتفجرات. وقد ربط هذا الدليل الحاسم لاحقًا بين الهجوم وشبكة متطورة للغاية من العملاء.
ومع ذلك، بدا أن الخيوط الأولى لم تصل إلى أي مكان. فقد ظهر شريط فيديو أعلن فيه رجل يدعى أبو عدس مسؤوليته عن الاغتيال. ومع ذلك، سرعان ما تبخر هذا الخيط بسرعة. لم يجد المحققون أي روابط موثوقة بين أبو عدس والجناة الفعليين. وبدلًا من ذلك، أصبح من الواضح أن الفيديو كان مجرد خدعة تهدف إلى تضليل التحقيق.
كشف النقاب عن مؤامرة متطورة
ومع تعمق المحققين في التحقيق، بدأوا في الكشف عن عملية منظمة وسرية للغاية. لم يكن مجرد عمل إرهابي عشوائي بل كان اغتيالًا محسوبًا ومخططًا له جيدًا، تطلب شهورًا من المراقبة والتوقيت الدقيق. جاء الإنجاز عندما بدأ المحققون في تحليل سجلات الهاتف.
تم اكتشاف شبكة من الهواتف المحمولة، أطلق عليها فيما بعد اسم "الهواتف الحمراء". كانت هذه الهواتف تستخدم فقط للتواصل داخل مجموعة صغيرة ومغلقة، مما أثار الشكوك الفورية. كان للهواتف غرض واحد فقط: تعقب تحركات الحريري. واستُخدمت هذه الهواتف لتنسيق توقيت الهجوم، مما يضمن تفجير القنبلة في اللحظة المناسبة تمامًا عند مرور موكب الحريري.
وقد أشار أحد المحققين، في معرض تعليقه على هذا الاكتشاف، إلى أنه "أدركنا أنه إذا كان هذا التحقيق سينجح في تحقيقه، كان علينا التركيز على الهواتف. كانت الشبكة صغيرة ولكنها منظمة للغاية. وبمجرد عثورنا على الهاتف الرئيسي - الهاتف الأحمر 741 - أدركنا أننا كنا على شيء ما".
كشفت بيانات الهاتف عن شبكة معقدة من المراقبة، حيث تم تعقب كل تحركات الحريري في الأشهر التي سبقت وفاته. كانت شبكة الهاتف الأحمر محورية في هذه العملية، وكان اكتشافها سيوجه المحققين في نهاية المطاف نحو العقول المدبرة وراء عملية الاغتيال.
دور حزب الله وسوريا
ومع تقدم التحقيق، بدأ اسم مصطفى بدر الدين يطفو على السطح. لم يكن بدر الدين، وهو شخصية بارزة في حزب الله، غريبًا عن العمليات الإرهابية. فتاريخه كشخصية محورية في هجمات عام 1983 في الكويت، حيث نسق سلسلة من التفجيرات، جعلته مشتبهًا رئيسيًا. في الأشهر التي سبقت اغتيال الحريري، كان بدر الدين على اتصال دائم بشبكة الهاتف الأحمر، مما دفع المحققين إلى استنتاج أن حزب الله لعب دورًا محوريًا في عملية الاغتيال.
لكن المؤامرة لم تتوقف عند حزب الله. فسرعان ما اتضح تورط سوريا في المؤامرة. فقد توترت علاقة الحريري السياسية مع سوريا في السنوات التي سبقت مقتله. فبعد أن كان الحريري حليفاً لدمشق، بدأ الحريري ينأى بنفسه عن النفوذ السوري في السياسة اللبنانية، خاصة بعد اجتماع متوتر مع الرئيس السوري بشار الأسد.
في ذلك الاجتماع، كما وصفه مقربون من الحريري، يُزعم أن الأسد هدد بـ"كسر لبنان" إذا عارض الحريري خططه لتمديد ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود، وهو شخصية موالية لسوريا. "لم يسمح له بشار حتى بالجلوس"، كما يتذكر أحد المقربين منه. "كان متوترًا ومتعرقًا وقلقًا بعد الاجتماع. كان من الواضح أنه شعر بالتهديد".
إن قرار الحريري بمعارضة النفوذ السوري، إلى جانب انحيازه المتزايد للمصالح الغربية والسعودية، وضعه على خلاف مع دمشق. ويعتقد المحققون أن هذا التوتر كان الدافع وراء اغتياله.
شهادات الأصدقاء والحلفاء
وعلى مدار الفيلم الوثائقي، ترسم شهادات أصدقاء الحريري وحلفائه صورة لرجل كان طموحًا وملتزمًا بشدة بمستقبل لبنان. ويصفون صعوده من خلفية متواضعة إلى أن أصبح واحداً من أكثر الشخصيات ثراءً وتأثيراً في العالم العربي.
يقول أحد الأصدقاء: "لم يكن لدى الحريري حلم آخر غير وحدة لبنان. كانت رؤيته لإعادة بناء بيروت بعد الحرب الأهلية أحد أعظم إنجازاته. وبصفته رئيسًا للوزراء، قاد عملية إعادة إعمار وسط المدينة، وهو مشروع يرمز إلى تعافي لبنان والأمل في مستقبل أفضل".
لكن هذه الشهادات تكشف أيضًا عن قلق متزايد على سلامة الحريري في الأشهر التي سبقت وفاته. يتذكر أحد الأصدقاء قائلاً: "قلنا له: يا رفيق، كن حذراً جداً، سيقتلونك. لكنه دائماً ما كان يتجاهل التحذيرات. كان يركز على مهمته".
المجتمع الدولي يستجيب.. دعوات لتحقيق العدالة
لم يكن اغتيال الحريري مجرد ضربة للبنان، بل كان جريمة تردد صداها على الصعيد الدولي. راقب العالم في رعب بينما كان لبنان ينحدر إلى أزمة سياسية. اندلعت احتجاجات حاشدة في بيروت، حيث خرج مئات الآلاف من المتظاهرين مطالبين بالعدالة للحريري وإنهاء النفوذ السوري في لبنان.
ورداً على ذلك، أطلقت الأمم المتحدة تحقيقاً دولياً أدى في نهاية المطاف إلى إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان. هدفت المحكمة إلى تقديم المسؤولين عن اغتيال الحريري إلى العدالة، وبعد سنوات من التحقيق، أصدرت المحكمة عدة لوائح اتهام، بما في ذلك لائحة اتهام ضد مصطفى بدر الدين.
وقد أدين بدر الدين، إلى جانب عناصر آخرين من حزب الله، بتدبير عملية الاغتيال، على الرغم من أنه لم يمثل أمام العدالة في المحكمة. وقد قُتل في سوريا في عام 2016 في ظروف غامضة.
إرث الحريري.. حلم لم يتحقق
كان اغتيال رفيق الحريري بمثابة نهاية حقبة بالنسبة للبنان. فقد انقطعت رؤيته لبلد مسالم ومزدهر وموحد بسبب العنف الذي عانت منه البلاد لعقود. ولكن حتى في مماته، لا يزال إرث الحريري حياً.
ولا يزال التزامه بإعادة بناء بيروت وتوفير التعليم لآلاف الطلاب اللبنانيين مصدر فخر للكثيرين. قال أحد زملائه السابقين: "كان الحريري أكثر من مجرد سياسي.. لقد كان بانيًا وموحدًا. حلمه للبنان لن يُنسى أبداً".
ومع ذلك، لا يزال لبنان يعاني من تبعات اغتياله، فالانقسامات السياسية التي كانت موجودة في عهد الحريري لا تزال قائمة، ولا يزال شبح النفوذ السوري ونفوذ حزب الله يلوح في الأفق. لكن بالنسبة للكثير من اللبنانيين، تمثل ذكرى الحريري منارة للأمل - تذكيراً بما كان يمكن أن يكون عليه لبنان وما لا يزال يطمح أن يكون عليه.
وفي اللحظات الأخيرة من الفيلم الوثائقي، يتحدث أحد أصدقاء الحريري عن خسارته: "لم يكن الأمر يتعلق فقط بقتل الحريري. كان الأمر يتعلق بإرسال رسالة. لكن ما لم يتوقعوه هو أننا لن نستسلم. نحن بحاجة إلى العدالة، ولن نتوقف أبداً عن النضال من أجلها".