فيما يُعايِن العالم مآل المفاوضات حول الاتفاق النووي مع إيران في أمتاره الأخيرة، يشكّل لبنان أحد أبرز الساحات المرشّحة لتكون في قلب دائرة الاستفهام حول تداعيات هذا التطور على واقعه الذي بات محكوماً بانعدامٍ كامل للجاذبية منذ أن «فَقَدَ توازنه» السياسي بامتداده الإقليمي.
ولم يكن عابراً أن يطلّ الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله باكراً على تأثيرات العودة إلى الاتفاق النووي، على واحدٍ من ملفيْن رئيسييْن يختزلان المشهد اللبناني هذه الأيام، وهما الترسيم البحري مع إسرائيل بوساطة أميركية والانتخابات الرئاسية.
وأكد مساء الجمعة، أن «موضوع الحدود البحرية وكاريش والنفط والغاز لا علاقة له بالاتفاق النووي الايراني، لا من قريب ولا من بعيد سواء وُقّع من جديد الاتفاق أو لم يُوقّع. وإذا جاء الوسيط الأميركي وأعطى للدولة اللبنانية ما تطالب به - رايحين على الهدوء - سواء وُقّع الاتفاق أو لا، وإذا ما لم يُعطَ للدولة اللبنانية ما تطالب به، فنحن رايحين على التصعيد، وعيْن اللبنانيين يجب ان تكون على كاريش، وعلى الوسيط الأميركي الذي مازال يضيّع الوقت، ووقتُه قد ضاق».
وقرأت أوساط مطلعة في كلام نصرالله، أنه حرص في الشكل على «إفهام الجميع» في الخارج، أن معاودةَ توقيع «النووي» لن تعني بأي حال تغيير معادلة الردع التي رسمها بوجه إسرائيل ومن خلفها واشنطن حيال منح مهلة حتى سبتمبر المقبل، لبلوغ اتفاقٍ ترسيم يحفظ كامل الحقوق التي حدّدها لبنان الرسمي والإفراج بالتوازي عن عمليات التنقيب والاستخراج في كل البلوكات اللبنانية، رغم أن جوهر الموقف حَمَلَ أيضاً إشاراتِ تخفيفٍ من مساحة «حقل الألغام» الذي من شأنه أن يُشْعِل «الجبهة النائمة» بين لبنان وإسرائيل.
فبعدما كان نصرالله حدّد كل الحقول الإسرائيلية كـ «أهداف» هي في مرمى «حزب الله» ما لم تتوقف تل أبيب عن الاستخراج من كاريش وعن العمل في كل حقولها بحال لم يَجْرِ التوصل الى اتفاق الترسيم ولم يُرفع ما اعتبره «حصار» على استخراج لبنان ثروته النفطية، فإنه في إطلالته الجمعة، بدا وكأنه حَصَر «معيار انتصاره» في ردع الاسرائيليين بحقل كاريش تحديداً، في ظلّ أجواء لا تشجّع على تَوقُّع إنجاز الترسيم قبل الانتخابات الإسرائيلية مطلع نوفمبر المقبل والتي تتقاطع مع «رئاسية لبنان»، ووسط تقديراتٍ بأن الحزب، الذي لا يريد حرباً، ولا إسرائيل، بدأ «يوسّع الكوع» في اتجاه جعْل إخراج «كاريش من الخدمة» عنوان «النصر الآتي» في المرحلة الانتقالية الفاصلة عن بلوغ التفاهم البحري، وأن أي اعتداء خلالها سيُقابَل «بما يلزم».
وإذا كان البُعد الأول لتأثيراتِ ضخّ الحياة المرجَّح في الاتفاق النووي، رسّمه «حزب الله» من «أول الطريق»، فإن الملف الثاني الذي جرى ربْط مساره بمفاوضات فيينا، أي الانتخابات الرئاسية التي تبدأ مهلتها الدستورية بعد 10 أيام، بدا مشوباً بضبابية كبرى تنطلق من قراءات تعتبر أن ثمة «سوء تقدير» أو إفراطاً في مقاربة هذا الاستحقاق وهوية مَن سيدخل قصر بعبدا من زاوية النووي الإيراني وكأنه سيكون بمثابة «زرّ» الإفراج عن رئاسية الخريف وتحديد اتجاهاتها.
وفي رأي الأوساط، أن الواقعَ الداخلي وموازين القوى فيه سيكون هو المعيار الحاسم في الانتخابات الرئاسية، مذكّرة بأنه وفي مفاصل ومفترقات رئيسية ثبت الهامش الواسع جداً الذي يملكه «حزب الله» في مقاربة ملفاتٍ أساسية، مذكّرة بأن طهران سبق أن وسّعت «مرجعيةَ» الحزب - ولو من باب تأكيد فصل المسارات بين النووي والساحات اللاهبة في المنطقة - في اتجاه ملفات إقليمية، وهو ما يجعل تالياً من غير الواقعي تَصَوُّر أن يكون لأي إحياء للاتفاق النووي ارتدادات مباشرة على رئاسية لبنان خارج رؤية الحزب التي تنطلق حتى الساعة من 3 ثوابت:
أوّلها، عدم التفريط بوحدة الائتلاف الذي يقوده والذي يبقى الرافعة الأساسية للوضع اللبناني رغم خسارته الغالبية النيابية، وربما موقتاً، بحال صحّت التسريبات عن طعون نيابية قد تُقبل وتعيد الأكثرية رسمياً «إلى مكانها».
وثانيها، عدم ممانعة أن يكون الرئيس المقبل ذا «مقبولية» وقادراً على مخاطبة الأميركيين والمجتمعين العربي والدولي، في لحظةٍ حرجة بدينامية الانهيار المالي الكبير.
وثالثها، رفْض وصول أي رئيس مواجهة أو تحدٍّ يحمل شعارات أو معادلات عدائية لـ «المقاومة» ودورها وسلاحها.
من هنا، وبمعزل عن كل التلميحات لإمكان بقاء الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته ما لم تكن سبقت ذلك ولادة حكومة كاملة الصلاحيات والتي تعتبر دوائر عليمة انها لا تعدو كونها في سياق «الحرب النفسية» رئاسياً، فإن ارتفاع حظوظ الشغور الرئاسي في زمن إحياء النووي الإيراني سيكرّس ارتفاع منسوب «الأبعاد اللبنانية» للاستحقاق الرئاسي بتعقيداته المحلية التي تزاوج بين توازن سلبي في البرلمان لا يملك معه «حزب الله» ولا خصومه نصاب الثلثين الكفيل توفير نصاب جلسات الانتخاب وإيصال رئيس إلا من الدورة الثانية وما فوق وبأكثرية 65 صوتاً، وبين حاجة «حزب الله» لترتيب بيته السياسي أي تأمين تفاهماتٍ داخل معسكره على واحد من أمرين:
إما مرشح من صلبه (حظوظ سليمان فرنجية أعلى من حظوظ جبران باسيل شبه المعدومة) بعد حياكة «بذّة» له لا تقدّمه على أنه رئيس تحدٍّ، وهنا يُترك لرئيس البرلمان نبيه بري هنْدسة مثل هذا المسار. أو مرشح من خارج الائتلاف الذي يقوده حزب الله، وفق مواصفاته و«لاءاته» المعروفة.
لكن في الحالين على ألا يكون الاستحقاق الرئاسي «مدمّراً» للتحالف الذي بناه الحزب منذ 2005 ووفّر له بدايةً في السياسة ما يشبه «الغطاء الناري» لكل اندفاعاته «على البارد» كما «الساخن»، ثم أتاح له إحكام القبضة على الوضع اللبناني بكلّيته منذ رئاسية 2016 حتى انتخابات 2018 النيابية.
من هنا تُبْقي الأوساطُ المطلعةُ على اعتبارها أن «حزب الله» ربما يجد في الفراغ الرئاسي ممراً إجبارياً لتخريج خيارٍ رئاسي يُلْزِمُ الجميع به، أقربين قبل أبعدين، على وهج انزلاقاتٍ خطيرة تطلّ من الواقع المالي الذي يُنْذر بالمزيد من العصْف مع تسجيلِ الدولار 34 ألف ليرة أمس، وفوضى المقارباتِ في ما خص رفْع استيفاء الدولار الجمركي.
ولفتت إلى أن الحزب الذي لم يُعْطِ بعد «كلمة السرّ» في ما خص الملف الرئاسي قد يستفيد أيضاً في «خطة العمل» التي وضعها مما سيقوم به خصومه، فإذا لم يكونوا قادرين على الاتفاق على مرشّح واحد يملك عددياً أكثرية 65، وهو ما يصعب استشرافه، فإنه قد لا يكون بحاجة لكثير عناءٍ لجرّ غالبية اللاعبين الى... ملعبه.
الراي الكويتية