التاريخ لا يعيد نفسه

ربما ملّ الناس من زحام الأخبار، وقصص المآسي، بات الإقليم في حومةٍ من الصراع، ما يخرج من أزمةٍ إلا ويدخل بأخرى. الحالة في الشرق الأوسط يرثى لها، فالنيران مشتعلة، والحرب مستعرة وما من حلّ يلوح في الأفق.

وكل هذه المآسي كان يمكن تجنبها لو أن صوت الدبلوماسية والحوار والحلول العقلانية لها الأولوية. علّمنا التاريخ أن الصراع الدموي لا يصنع نتيجةً باهرة، وإنما يذهب نحو مزيد من التأزيم، ويفتح المجال للحروب الأهلية، ويمكّن العصابات والميليشيات من التحكّم بالدول والمؤسسات، منذ الحروب الأهلية في أميركا مع إبراهام لينكون، وليس انتهاءً بالحرب الأهلية الإنجليزية، والحرب الأهلية في ألمانيا، والحروب الدينية في فرنسا، كلها نزعات بشرية دموية صعدت وتفوقت على العقل الحكيم لتتحول المدن إلى أشلاء وركام.

هذه المرحلة جدّ عصيبة، وفيها من التركيب السياسي المعقد ما يصعب تحليله، ولكن الرهان على الأسس الأولى التي ثمّنها الحكماء من الزعماء، ونظّر لها كبار الفلاسفة والفاقهين، وألخّصها بهذه المقولات الأربعة التالية: أولها: تفويض القانون ليكون حكماً على الأيديولوجيا، معظم ما نشهده الآن يعبّر عن انتكاسة إقليمية في تغليب الأيديولوجيا على النظم والدساتير والأسس القانونية، وهذا يعزز من احتمالاتٍ عديدة منها هشاشة الدولة وتقلّص فعاليتها، والتمهيد لحروبٍ أهليةٍ، كما شهدناها في عددٍ من الدول، هذا فضلاً عن استنزاف الطاقة التعايشية بين الأفراد والطوائف والأديان، وثمن فقدان الوعي بالقانون المدوّن من مؤسسات الدولة التشريعية، أو من المؤسسات الإقليمية أو الأممية، إن القانون هو بوصلة كل حل، ومن دونه تتفتّق أفكار العنف، وفلسفات الموت، وتنعقد في قلوب المجتمعات الأحقاد. ثانيهما: إنهاء تجريب الفشل، لو تأملنا معظم الأحداث، لوجدنا أن البعض يحاول إعادة تجريب الفشل، رغم أن الإمكانات العقلانية، والحلول الواقعية مطروحة، وكادت أن تنجح لولا أن البعض وضع العصيّ بالدواليب.

إن أفضل طريقةٍ لإنها النزاعات والحروب منذ حروب أثينا وأسبرطة إلى الحروب العالمية العالية كانت تحلّ بورقةٍ وقلم وطاولةٍ وذهنٍ منفتح. ثالثهما: تغليب المستقبل على الماضي، معظم الأحداث التي تجري الآن دافعها اجترار الأحقاد القديمة، وعلكها، ومضغ القصص والمآسي القديمة، وبخاصةٍ حين يتعلّق الأمر بالطائفة أو الدين، حينها تكون العقول مغيّبة عن المشهد، ومن بعدُ تبدأ نزعات التعصّب وتنبعث ذكريات الانتقام.

رابعهما: التركيز مع كل أزمةٍ على سبل التفاوض، علّمنا التاريخ أن الحروب التي لا أفق لها تدخل بالناس إلى النفق، ثمة حروب سياسية ضرورية ولكن ضمن أهدافٍ مرسومة، وأسباب معلومة، ونهايات مدروسة، وهنا حسن التدبير، أما أن تخوض الفصائل الحروب عوضاً عن الدولة أو الجيش تعني الفوضى، وهي مغامراتٍ محكومة بالفشل وتشلّ المؤسسات وتنقص من طاقة الدولة.

الخلاصة، أن التاريخ ممتلئٌ بالدروس، لكن التاريخ على عكس ما يقال لا يعيد نفسه، وإنما الناس يكررون الأخطاء، التاريخ بريء من إعادة الأحداث والكوارث، بل إن أعظم وثيقة بين يدي الإنسان دروس التاريخ، لكن الإشكال في العقول التي لا تستوعب العبر، ولا تأخذ من التاريخ قصصه وأحداثه.

الاتحاد

يقرأون الآن