لا زالت "القنوات السعيدية"- نسبة إلى المذيع المصري الشهير أحمد سعيد في حقبة الخمسينات والستينات– تمارس الكذب على الجماهير العربية وتصوير الوضع في لبنان وغزة على غير حقيقته. إنها لا تتحدث عن التهدئة والهدنة، بل عن انتصارات.
لا زلنا نسمع من قناة معينة عن صواريخ نوعية يطلقها "حزب الله" من لبنان على إسرائيل ليتضح فيما بعد أنها صواريخ غير مؤذية، مجرد محاولة– كادت تنجح– لحفظ ماء الوجه. واستخدمت القنوات هذه في الفترة الأخيرة مصطلحا جديدا لم نكن نسمع به من قبل في إعلامنا العربي، حين تتحدث عن "رشقات" أمطروا بها الكيان الصهيوني، إلا أنها صواريخ أيضا شبحية لا يراها أحد ولا تلحق الضرر بإسرائيل، ورشقات لا ندري ماذا تعني.
وقبلهم كان سعيدي آخر، هو وزير الإعلام العراقي في زمن صدام حسين، يبشر بهزيمة "العلوج" و"الطراطير" أثناء غزو بغداد 2003 وأن القضية لا تعدو أن تكون مسألة وقت حتى يقضي القائد المُلهم على الجيوش الأميركية ويفنيها إفناء. وظل يكرر هذه الدعاوى حتى اقتحم الأميركيون بغداد وأسر صدام، لنكتشف بعد ذلك أن محمد سعيد الصحاف لم يكن أصلاً على قائمة المطلوبين الأميركيين، إذ اعتبروه شخصاً غير ضار.
غير أن أحمد سعيد هو الأب الروحي لهذا الخط من الإعلام العربي، وكان أداؤه مميزاً، حيث وضع البصمة المختلفة وأسس لإعلام يبيع الوهم الى الجماهير. وأشهر حادثة تذكر في هذا المضمار هي عندما أعلن أحمد سعيد– رحمه الله– عبر إذاعة "صوت العرب" الناصرية عن انتصار الجيش المصري في حرب 1967. بطبيعة الحال، هزيمة 67 هي جرح في قلب كل عربي، رأينا ألمها في وجوه وأصوات آبائنا عندما يروون هذه القصة، رغم أنهم ليسوا مصريين. لكن المصريين وكل العرب، خدعوا لوقت قصير، ثم عرفوا الحقيقة المرّة، حيث قُصفت الطائرات المصرية وهي على المدرج لم تحلّق منها طائرة واحدة. لكن سعيد تحدث عن انتصار ساحق وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية واقتحام أرض العدو. والواقع أنه لم يأت بهذه الدعاوى من عندياته، بل كان ينقل عن البيانات الصادرة عن الجيش والقيادة، أي عن عبد الناصر مباشرة. وقد اعتذر سعيد لاحقاً بأنه ما كان له أن يرفض تلاوة البيانات التي كانت تصل إليه من وزارة الدفاع ويؤمر بتلاوتها. هو بلا شك معذور في دفاعه عن نفسه، لكن هذا لا يغير من حقيقة أن التأسيس لإعلام يبيع الوهم قد وقع.
في مقابل هؤلاء، تقف قناة "العربية" متفردة تعطي دروساً في الإعلام الذي يحرص أول ما يحرص على نقل الحدث كما هو، لكي يتصور العالم، والمواطن العربي بشكل أخص، ما يحدث فعلاً.
قناة "العربية" لا تبيع الوهم. بل تقدم حقائق لا نرغب في تصديقها.
إنه لمن الإجرام، أن تتحدث عن انتصارات ومقاومة وأنت تعلم أن كل مصادرك تقول شيئاً آخر. محللون سياسيون، لا نستطيع أن ننفي عنهم صفتهم العلمية والعسكرية، لكنهم انخرطوا بالكامل في مشروع تعبئة عامة لأيديولوجيا مهزومة وخاسرة وتراهن بحيوات بريئة. يتحدثون عن انتصارات ومقاومة ويتهمون كل من يخالفهم في أدق التفاصيل بالخيانة، ونحن نرى غزة مدمرة تماماً وأهلها لا يدرون أين يذهبون، وأهل لبنان يتوجسون اليوم من مواجهة المصير ذاته، ولا أحد يعلم على وجه اليقين ما سيحدث في المستقبل.
قناة "العربية" استطاعت أن تكون صوت العقل، دون أيديولوجيا توجه مسارها ودون ركون إلى الرواية الإسرائيلية. بل الواقع أنها انحازت للعرب ونقلت مأساة الفلسطينيين واللبنانيين بكل تجرد، دون أن تمطر المشاهدين بالصور الشنيعة التي لا يجوز صدم المشاهد بها قبل التنبيه والتحذير.
المجلة