يعاني اقتصاد أقطار السوق الأوروبية المشتركة منافسة صعبة مع الاقتصادين الأميركي والصيني. وتبرز هذه التحديات في مجالات عدة: الزيادة العالية في تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية في الأقطار الأوروبية، حيث تبلغ تكلفة إنتاج الكهرباء في أوروبا ضِعف ما في الولايات المتحدة. فزيادة تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية ترفع أسعار السلع والبضائع المحلية والمصدرة، بل حتى الخدمات، مما يؤثر سلباً على إمكانيات صادراتها في الأسواق الخارجية. ونظراً للنفقات العسكرية الباهظة للحرب الأوكرانية، فالموازنات الأوروبية في معضلة مستمرة.
كما أن هناك التفوق العلمي في المجال الإلكتروني بالولايات المتحدة، وخاصة مؤخراً في مجال الذكاء الاصطناعي، وكذلك الطاقة الإنتاجية لكل من السلع الاستهلاكية والصناعية الصينية المنتشرة في السوق الصينية الضخمة نفسها، بالإضافة إلى الأسواق العالمية، ناهيك عن المرونة الاقتصادية الصينية، رغم نظام حكمها الشيوعي في جذب رؤوس الأموال والاستثمارات العالمية الضخمة، والمنافسة القوية للشركات الصينية في غالبية أسواق العالم بأسعار منافِسة للشركات الأخرى. كما أن هناك التفوق الصيني في التقدم بمجال صناعات الطاقات المستدامة، بحيث هيمنت الصين، حتى قبل انتشار هذا القطاع الصناعي الحديث العهد، على حيازة المراكز الأولى في تصنيع وتصدير واستهلاك سلع الطاقات المستدامة.
ومما يضاعف الأزمة التنافسية الأوروبية مع الدولتين الاقتصاديتين الكبريين عالمياً، «المعاناة الاقتصادية الأوروبية البطيئة».
خصصت النسخة الأوروبية لنشرة «بوليتيكو» عدة أعداد لها مؤخراً لظاهرة تدهور الاقتصاد الأوروبي وصعوبة منافسته للاقتصادين الأميركي والصيني، فعَنْوَنت مقالها الرئيسي «مهمة فون دير لاين إيقاف التدهور المضني البطيء لأوروبا». وألحقت هذا العنوان الرئيس بعنوان فرعي: «لقد تعهدت رئيسة السوق الأوروبية المشتركة بإنعاش إمكانية أقطار السوق في التنافس مع الولايات المتحدة والصين».
افتتحت النشرة مقالها بالفرق بين ما يشتاق إليه الزائر الأميركي لأوروبا، وهو الأماكن الأثرية في اليونان وإيطاليا، أو التاريخية في باريس وفيينا، أو حتى الأنفاق والمقابر للحربين العالميتين الأولى والثانية في برلين. هذا بينما ينصبّ اهتمام الزائر الأوروبي للولايات المتحدة على الاطلاع على المؤشرات المستقبلية؛ أولها، وليس آخرها، الركوب في سيارة بلا سائق. وخير مؤشر على هذه الظواهر هو ما حذَّر منه ماريو دراغي، الرئيس الأسبق للبنك المركزي الأوروبي، في تقريره الأخير، من أن أوروبا قد أصبحت «متحفاً مفتوح الأجواء»، حيث حذَّر من خطورة هذه الظاهرة، وضرورة معالجتها بأسرع وقت ممكن، وإلا فستعاني أوروبا من «مرحلة بطيئة من الضعف الاقتصادي».
حقيقة الأمر أن التحديات التي تواجه أوروبا أكثر من المنافسة مع الدولتين الاقتصاديتين الكبريين.
فهل بإمكان فون دير لاين الصمود في الحرب الأوكرانية وما تتطلبها من نفقات عسكرية باهظة الثمن؟ خاصة مع انتخاب الرئيس دونالد ترمب، ومطالبته الأعضاء في الحلف الأطلسي بتحمُّل عبء مالي أكثر في الدفاع عن أوروبا.
وهناك التأخر الأوروبي عن التقدم الاقتصادي الأميركي، خاصة مؤخراً في المجالات العلمية والتقنية، فالهوة تتسع بينهما في المجالات الإلكترونية. وخصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث إن الأغلبية الساحقة من المنصات الأساسية في هذا المجال أميركية.
كما أن الأمر يتجاوز التقدم العلمي، إلى المنافسة الاقتصادية عموماً، إذ يشير الكتاب السنوي الأخير لصندوق النقد الدولي إلى أن «نمو الاقتصاد الأميركي ارتفع 2 في المائة سنوياً منذ جائحة كوفيد، بينما حققت دول الاتحاد الأوروبي نحو 1 في المائة. ويتوقع الصندوق أن يرتفع نمو الولايات المتحدة، هذا العام، نحو 2.8 في المائة، مقارنة بنحو 0.8 في المائة لمنطقة اليورو».
ويطالب كبار الاقتصاديين في السوق الأوروبية المشتركة بإعادة الحيوية لقطاع الكهرباء الأوروبي، حيث تكلفة إنتاج الكهرباء ضِعف ما في الولايات المتحدة. وقد طالب ماريو دراغي، بالفعل، بتحسين الإمكانية التنافسية الأوروبية في الأسواق العالمية، لكن الجهود في هذا المجال لا تزال محدودة.
من ناحية أخرى، أدت مبادرات تصفير الانبعاثات وتسرع الدول الأوروبية في الدفع قُدماً بخطط وسياسات تفوق إمكاناتها المالية، إلى محاولة تحقيق هدف تصفير الانبعاثات في موعد مبكر جداً (2050)، يفوق ما تتمكن أوروبا من تنفيذه مادياً نظراً لعدم توفر البنى التحتية اللازمة لنقلة «تحول الطاقة» التاريخية الموعودة. ومما زاد من صعوبة تنفيذ التعهدات أيضاً عدم توفر تريليونات الدولارات التي حددتها الدول الأوروبية على نفسها، وما التزمت به تجاه مساعدة دول الجنوب.
وقد تبيَّن بوضوح في مؤتمرات «كوب» الأخيرة، أنه من الصعب جداً من الناحية الواقعية تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها أقطار السوق، الأمر الذي نتج عنه شيوع جو من التشاؤم نظراً لزيادة تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية في الدول الأوروبية، بسبب ما تم من فرض ضرائب وتعريفات جمركية على السلع والمكائن المستوردة للطاقات المستدامة التي أغلبها من الصين. كذلك تباين السياسات في هذا المجال مع الولايات المتحدة، أكانت هذه بشكل محاولة واشنطن، كما حدث في العهد الأول لإدارة الرئيس دونالد ترمب، أم من ازدياد المخاوف من المفاجآت التي سيطرحها الرئيس ترمب في عهده الثاني، وخاصة تهميش صناعة الطاقة المستدامة أميركياً وما ستتركه هذه السياسة على الطموحات الأوروبية في مجال مكافحة تغير المناخ، وما ستشكله من زيادة الأعباء المالية على الأقطار الأوروبية لدعم دول الجنوب في غياب المساعدة الأميركية. وستتأثر أوروبا سلباً باحتمال تباطؤ الأبحاث للتوصل إلى تقنيات حديثة أقل تكلفة من الحاضر.
ستواجه أوروبا وحدها تقريباً، هيمنة الصناعة الصينية على الطاقات المستدامة، الأمر الذي دفع الأقطار الأوروبية لفرض تعريفات جمركية عالية على السلع والمكائن الصينية في هذا المجال، مما أدى إلى ردود فعل صينية بفرض تعريفات جمركية عالية على بعض الصادرات الأوروبية.
الشرق الأوسط