يستقبل قاموسنا السياسى والاجتماعى الكثير من المفردات والكلمات أو المصطلحات الجديدة باستمرار، بحكم انفتاحنا على العالم من جانب وسرعة التواصل فى عالمنا من جانب آخر، فضلًا عن احتكاكنا بالمجتمعات المحيطة بنا، نستقبل مئات الآلاف من الزائرين أو اللاجئين، كما يسافر مئات الآلاف من المصريين إلى الخارج، فتتسرب كلمات من هنا وهناك.
بعض تلك المفردات تكون أقرب إلى الموضة أو الموجة العابرة وبعضها يقدر لها الاستمرار والتواصل، وقد تفد علينا من مجتمعات وبلدان مجاورة لنا أو بعيدة عنا، مثلًا حتى نهاية القرن التاسع عشر لم نعرف فى لغتنا، كلمة "ثورة" بالمفهوم المعروف الآن، كان القاموس العربى يقف منذ أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضى الله عنه) عند مصطلح "الفتنة" أو الخوارج والخروج على الحاكم، لذا لم ترد كلمة الثورة لدى الجبرتى رغم أنه عايش العديد منها وكتب عنها، كما لم ترد فى كتابات رفاعة رافع الطهطاوى الذى أطلق، فى رحلته، تعبير"الفتنة الفرنساوية"، وكان يقصد بها الثورة الفرنسية، إلى جوار الفتنة كان البعض يفضل كلمة "الهوجة".
لم نكن نعرف كذلك مصطلحًا مثل الديمقراطية، كانت لدينا كلمات أخرى ناسبت زمانها.
وهناك- بالضرورة- بعض المفردات والمصطلحات تسقط فى الطريق، لا تحتفظ بها الذاكرة، إذ ترتبط بلحظة وظروف بعينها، قد يتم استبدالها بكلمات أو مصطلحات أخرى أو تُنسى تماما، يمكن أن نتبين ذلك أكثر فى المجال الاجتماعى. ما كان يطلق عليه، طوال عقود "معاكسة" الشاب لفتاة، صار الآن "تحرشًا" أو تنمرًا، كانت المعاكسة مستهجنة أخلاقيًا أما التحرش فهو مجرَّم بالقانون، وحتى وقت قريب كان يطلق على رقم مليون جنيه "أرنب"، نصف المليون "نصف أرنب"، حتى إن المخرج نادر جلال قدم سنة 1983، فيلم "إنهم يسرقون الأرانب" بطولة سمير غانم ويحيى الفخرانى وجميل راتب، وكانت الكلمة كناية عن ملايين أحد البنوك، ثم اختفت الأرانب، لم نعد نردد تلك الكلمة، ربما لأن المليون لم يعد رقمًا مهولًا.
سياسيًّا هناك مصطلح بدأ يغزونا أو يغازل بعضنا فى السنوات الأخيرة أقصد كلمة "الموالاة".
تاريخيًّا، فى مصر، يتم التمييز فى المواقف السياسية، منذ عهد الخديو إسماعيل بين المؤيد والمعارض وبينهما عدة أطياف، الأقل تأييدًا والأقل معارضة أو المعارض مع نفسه، من أسميه "الممتعض".
حملت لنا السنوات الأخيرة كلمة "الموالاة"، بدلًا من التأييد والمؤيدين، أثناء جلسات الحوار الوطنى وردت تلك المفردة على لسان بعض المشاركين، وفى الفترة الأخيرة ازداد الإلحاح عليها وتكررت فى أحاديث حزبية، ولأننا على أبواب انتخابات برلمانية، نهاية هذا العام، وخلالها سوف يكون هناك نشاط حزبى، ظهرت بوادره منذ عدة شهور، وفى المعارك الانتخابية تصك مفردات ومصطلحات، ويمكن أن يتم اعتماد ذلك المصطلح "الموالاة" وهو طارئ علينا ولا يتوافق معنا بالمرة.
فى "لسان العرب"، الموالاة "ضد المعاداة"، هى كذلك بمعنى "من والى القوم"، وقد تحمل معنى "التوعد والتهديد"، ورد كذلك فى قول أحدهم "الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له فى أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه" وهناك معانٍ أخرى ترتبط بالنسب والعتق من الرق وغير ذلك كثير.
ظهرت "الموالاة" فى القاموس السياسى من بيئة حزب الله فى لبنان، خاصة بعد انتفاضة أو "مظاهرات 19 آزار"، للتمييز بين أنصار تلك الانتفاضة التى أفشلها الحزب والموالاة، أى أتباع حزب الله.
سوف نلاحظ أن الموالاة اعتبرت الحزب بديلًا عن الدولة، حيث لا دولة بالمعنى السياسى والوطنى العميق، لذا خاض الحزب حربًا مع عدو شرس دون الرجوع إلى الدولة ودون إشراكها، فاجأ الدولة، ورطها حرفيًا، وبعقيدة "الموالاة"، صفق له الموالون وهددوا من رفض تلك الممارسات وتم اغتيال بعض من رفع صوته بالاعتراض.
الموالاة لا تحمل معنى التأييد السياسى فقط، لأن من يؤيد موقفًا ما قد يعارض موقفًا آخر، مؤيد اليوم قد يكون معارضًا فى الغد ولعل هذا ما يجعل البعض ينتقلون من حزب إلى آخر، وقد يرفضون فكرة اليوم ثم يجدون لها وجاهة بعد ذلك، كثيرون ممن رفضوا توجه الرئيس السادات إلى التفاوض المباشر مع الحكومة الإسرائيلية سنة 1977، عادوا بعد ذلك ليحمدوا بشجاعة أدبية للرجل ما قام به، بين هؤلاء أسماء كبيرة ورنانة.
لم يكن ذلك جديدًا، الشيخ محمد عبده تبنى العمل الثورى أيام ثورة أحمد عرابى، وبعد فشل الثورة انتقل إلى النهج الاصلاحى وصار إصلاحيًا، حتى وفاته صيف سنة 1905.
عباس محمود العقاد كان وفديًا خالصًا، زمن الزعيم سعد زغلول وحتى بعد رحيل الزعيم، دافع بكل قوة عن الوفد ودخل السجن سنة 1930 لمدة تسعة أشهر بسبب موقفه، وفى سنة 1935 اختلف مع مصطفى النحاس باشا وغادر الوفد نهائيًّا وصار أشد خصومه عنفًا فى الانتقاد والهجوم. ليس العقاد وحده بل مكرم عبيد وأحمد ماهر والنقراشى باشا وغيرهم، ليس الأمر وقفًا على التجربة المصرية فقط، بل فى معظم التجارب والبلدان، هكذا تكون الحياة السياسية والحزبية.
لكن "الموالاة" ليست موقفًا سياسيًا أو وطنيًّا بهذا المعنى، إنها تعنى التأييد المطلق، المبنى على موقف مذهبى أو طائفى، ويمكننا القول التأييد من المنطق العقائدى أو الأيديولوجى، فى هذه الحالة يصبح الخروج عن الموالاة أو نقيضها ليس المعارضة، بل المروق وربما الكفر أو الخيانة فى حالة موالاة الأيديولوجيا.
فى الحياة السياسية حول العالم وجدنا الجماعات العقائدية والأيديولوجية عاملت من اختلفوا معها باعتبارهم مارقين؛ لذا جرت محاولات لتصفيتهم واغتيالهم، على الأقل إهدار واغتيال سمعتهم وشرفهم.
فى التجربة السوفيتية نعرف كيف تعامل ستالين مع تروتسكى وأنصاره، فى النهاية تم تصفية ليو تروتسكى بطريقة همجية.
وفى جماعات الإسلام السياسى جرت تصفيات داخلية بينهم، وكان القتل أيسر الحلول لديهم، اغتيال عبدالله عزام بعد خلافه مع تلميذه أسامة بن لادن، الحروب بين جماعات المجاهدين فى أفغانستان بعد انسحاب الجيش السوفيتى نموذج آخر، جماعة حسن البنا حدث فيها شىء مشابه مع صعود المرشد الثانى حسن الهضيبى، عدد من قادة الجماعة تم تسليمهم لأجهزة الأمن بوشايات أو بلاغات مقدمة من أفراد داخل الجماعة بقصد إزاحتهم من الطريق، عقابًا لهم أو ليخلو المجال للمنافسين. حجم الانشقاقات داخل هذه الجماعات والصراعات الدموية بينها يعود إلى غياب الموقف السياسى، قبولًا أو رفضًا.. اتفاقًا واختلافًا، حيث تقوم على الموالاة أو الولاء بالمفهوم العقائدى.
فى العقود الأخيرة انتقلت إلينا مفردات عديدة من لهجات أخرى ومن سياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مغايرة لنا، ولم نكن ننزعج، ذلك أن عملية الفرز مستمرة ومتواصلة داخل المجتمع، أما أن نستورد مصطلحًا له حمولة مذهبية وطائفية غريبة علينا، ليست غريبة فقط، لكنها خطر على المجتمع، فهنا يجب أن نتريث.
ونحن فى مجتمع يتبنى نظامه السياسى تعدد الأحزاب، بنص الدستور، لدينا حوالى 87 حزبًا سياسيًا، لا تقوم الأحزاب ولا النظام السياسى كله وفق معيار طائفى أو مذهبى، بنص الدستور أيضًا، ولدينا إصرار على بناء الدولة الوطنية/المدنية.
بإزاء ذلك كله، لا يليق أن نستعمل تلك الكلمة البغيضة -سياسيًا- "الموالاة"، بيننا المؤيد للحكومة وهناك المعارض لها، كذلك فإن مستويات التأييد تختلف وكذلك درجات المعارضة، قد يكون عندنا فريق مثل "الماميز"، يعارضون أو غاضبون من بعض سياسات وزارة التربية، لكن لا إشكال لديهم مع سائر الحكومة، نفس الشىء بالنسبة للوزارات الخدمية الأخرى، فى هكذا مجتمع لا مكان ولا معنى لمصطلح مثل "الموالاة".
المصري اليوم