كأن أبواب الجحيم انفتحت على لوس أنجلوس الأميركية، حيث دمّرت الحرائق المستعرة وغير المسبوقة في التاريخ الأميركي الحديث آلاف المباني والسيارات، وأجبرت عشرات الآلاف على النزوح، فيما أظهرت المشاهد المتواترة حجم الخراب المهول، والذي قد تبلغ كُلفته حوالي 200 مليار دولار، لكنها كشفت عن كوارث أخرى أثارت غضب الأميركيين.
بينما كان رجال الإطفاء يصارعون الزمن لمحاولة السيطرة على الحرائق المستعرة، إذ بهم يتفاجؤون بنضوب شبكات المياه، ليصبحوا وكأنهم مجموعة جنود تعرضوا للحصار في قلب معركة طاحنة وفجأة نفذت ذخيرتهم، وبالتالي فإن النتيجة شبه محسومة.
شهادات حية
ويقول الكابتن كيفن إيستون: إنه بينما وفريقه من رجال الإطفاء قضوا بالفعل ساعات في مكافحة حريق خرج عن السيطرة واجتاح منطقة باسيفيك باليساديس في لوس أنجلوس، تاركاً وراءه منازل مدمرة، ثم عند حوالي منتصف الليل، بدأت خطوط المياه تجف، وفقاً لصحيفة واشنطن بوست.
واعترف المسؤولون أن صهاريج تخزين المياه للمناطق المرتفعة، وأنظمة الضخ التي تغذيها، لم تتمكن من مواكبة الطلب مع انتشار الحريق من حي إلى آخر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أولئك الذين صمموا النظام لم يأخذوا في الاعتبار السرعات المذهلة التي تشتعل بها الحرائق المتعددة عبر منطقة لوس أنجلوس هذا الأسبوع.
وقال مارتي آدامز، المدير العام السابق وكبير المهندسين في إدارة المياه والطاقة في لوس أنجلوس: إنه تم تصميم أنظمة المياه البلدية لرجال الإطفاء للاستفادة من صنابير متعددة في وقت واحد، لكن هذه الأنظمة يمكن أن تنهار عندما تشتعل حرائق الغابات.
ويمكن أن تكون المشكلة حادة بشكل خاص خلال ظروف الرياح العاتية، مثل تلك التي شهدتها لوس أنجلوس هذا الأسبوع، عندما لم تتمكن طائرات مكافحة الحرائق من إجراء عملياتها الجوية المعتادة باستخدام الماء ومثبطات الحرائق بأمان.
كارثة في التصميم
ومع الأخذ في الاعتبار، أنه يمكن أن يشكل توصيل المياه إلى المناطق العليا للمجتمعات الواقعة على سفوح التلال في لوس أنجلوس تحدياً، فإنه يتم تجميع المياه في خزان يتم ضخه في ثلاثة صهاريج عالية الارتفاع، تبلغ سعة كل منها حوالي مليون جالون، ثم يتدفق الماء بالجاذبية إلى المنازل وصنابير إطفاء الحرائق، لكن نظام الضخ والتخزين مصمم للتعامل مع حريق قد يلتهم عدة منازل، وليس المئات، حسبما قال الرئيس السابق لإدارة المياه في المدينة.
ويؤكد المسؤولون أنه لابد من إعادة التفكير في كيفية تصميم الأنظمة، وأضافوا إنه قبل الظروف الجوية الخطرة الراهنة، امتلأت صهاريج التخزين فوق باسيفيك باليساديس وغيرها من مجتمعات التلال المتضررة من الحرائق إلى طاقتها القصوى. ولكن مع انتشار حريق باليساديس الثلاثاء، استنفدت مياه الصهريج الأول بسرعة. وبعد ساعات، كان الثاني فارغاً، وبحلول الأربعاء جف الثالث.
ثم قالت كريستين كراولي، رئيسة إدارة الإطفاء في لوس أنجلوس: إن رجال الإطفاء توقفوا عن استغلال الصنابير تماماً.
وانتهى الأمر بجفاف المياه ليكون واحداً فقط من عدة تحديات، حيث كانت فرق الإطفاء في جميع أنحاء لوس أنجلوس غارقة في الحرائق على العديد من الجبهات.
وفي منطقة ألتادينا، حيث أتى حريق إيتون على أكثر من 13 ألف فدان وما يصل إلى 5000 مبنى، تعامل رجال الإطفاء أيضاً مع الضغوط على نظام المياه.
وأكدت السلطات أن هبوب الرياح غير المنتظمة نقلت الجمر لعدة أميال قبل الحريق، وهذا ما سبب الانتشار السريع له.
ويقول ريك كاروسو، المطور العقاري والمرشح السابق لمنصب عمدة لوس أنجلوس: إن لديه فريقاً من رجال الإطفاء الخاصين المنتشرين في باسيفيك باليساديس، وكان يُبلغ طوال الليل عن نقص المياه. وأكد أن معالجة مشاكل الإمدادات ستستغرق وقتاً، لكنه ألمح إلى أن هناك نقصاً في الاستعدادات.
بنية تحتية متهالكة
وتكشف تريسي بارك، عضو مجلس مدينة لوس أنجلوس أن شبكات المياه في المدينة كانت من بين عدة أجزاء من البنية التحتية التي تعاني من نقص شديد في التمويل، كاشفة أن عمر بعض أنابيب المياه يبلغ قرناً من الزمان.
وردد جريج بيرس، الباحث في جامعة كاليفورنيا، والذي يدرس الموارد المائية والتخطيط الحضري، المخاوف بشأن أنظمة المياه المصممة لحرائق المناطق الحضرية، وليس حرائق الغابات سريعة الحركة، لكنه قال: إن إعادة تصميم شبكات المياه للسماح لرجال الإطفاء بمواجهة حرائق غابات واسعة النطاق ستكون مكلفة للغاية.
ويكشف الكابتن إيستون، وهو ضابط مخضرم في إدارة الإطفاء وساعد في مكافحة حريق باسيفيك باليساديس، أن هناك تعقيدات أخرى بالإضافة إلى إمدادات المياه، مثل التأخير في إرسال أطقم دعم إضافية من مناطق أخرى إلى مكان الحريق.
وأضاف: إن إدارة المياه والكهرباء في لوس أنجلوس أرسلت شاحنات تحمل خزانات مياهاً إضافية إلى المنطقة، لكنها كانت في مواقع ثابتة، مما يعني أنه كان على رجال الإطفاء الذهاب لإحضار المياه والعودة لمجابهة الحرائق. وأضاف: «هذا يسبب مشاكل، لأنك تذهب لإحضار 500 جالون من الماء بينما هناك منزل مشتعل».
لا نهاية قريبة؟!
ويبدو أن ظروف الحرائق الحرجة ستستمر، حتى بعد تدمير أكثر من 10000 مبنى وأوامر إجلاء إلزامية لأكثر من 360.000 شخص، ويقول خبراء الأرصاد الجوية: «إنه لسوء الحظ، سيتفاقم الوضع مرة أخرى بحلول الاثنين، لذا فإن الأمر حقاً هو سباق مع الزمن بالنسبة لفرق الإطفاء للسيطرة على الأمور قبل أن تهب الرياح الساخنة القوية مرة أخرى».
تجارب سابقة
وفي عام 2022 بولاية كولورادو، وبينما كان رجال الإطفاء على وشك استنفاد إمدادات المياه، اتخذت أطقم العمل خطوة غير اعتيادية تمثلت في دفع المياه غير المعالجة عبر النظام.
وفي عام 2023، في جزيرة ماوي في هاواي، وجد رجال الإطفاء الذين كانوا يكافحون حرائق الغابات أن صنابير مياههم جفت مع اشتعال النيران في مجتمع لاهينا، مما أسفر عن مقتل 102 شخص في أعنف حرائق الغابات في البلاد منذ أكثر من قرن.
أعمال نهب
ومع إجبار مئات الآلاف من الأشخاص على مغادرة منازلهم، قالت إدارة شرطة مقاطعة لوس أنجلوس: إنه تم إجراء عدد من الاعتقالات على خلفية أعمال النهب، حيث كانت وحدات الحرس الوطني في كاليفورنيا على الأرض لدعم تطبيق القانون.
وتم القبض على رجل بسبب حريق متعمد محتمل بالقرب من حي ويست هيلز، وفقاً لشرطة لوس أنجلوس.
كما أغلقت جميع المدارس في منطقتها الموحدة في لوس أنجلوس، كما ألغت جامعة كاليفورنيا الفصول الجامعية الجمعة، وأخبرت جامعة جنوب كاليفورنيا الطلاب أن الفصول الدراسية الشخصية ستستأنف كما هو مقرر يوم الاثنين بعد العطلة الشتوية.
وانقطعت الكهرباء عن أكثر من 200 ألف منزل في وقت مبكر من يوم الجمعة في جنوب كاليفورنيا،بحسب ما جاء في موقع صفحة "الخليج".
الأكثر تكلفة
ويمكن أن تكون حرائق لوس أنجلوس هي الأكثر تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة، فقد قدر خبراء إجمالي الخسائر الاقتصادية بما يقرب من 200 مليار دولار، ومع استمرار تزايد الحرائق وعدم معرفة المدى الحقيقي للأضرار، فمن المرجح أن يختلف العدد النهائي لخسائر التأمين بشكل ملحوظ عن التقديرات الأولية.
ترامب والحرائق
وواصل دونالد ترامب، سخريته من الرئيس الحالي جو بايدن، حيث حمله مسؤولية الفشل في مواجهة الحرائق، بالإضافة إلى حاكم الولاية، وكتب ترامب عبر منصته للتواصل الاجتماعي «تروث سوشيال»: «في هذه اللحظة، جافين نيوسوم وفريقه في لوس أنجلوس لم يقوموا باحتواء أي نسبة من الحرائق، إنها تشتعل على مستويات تتجاوز حتى الليلة الماضية، هذه ليست حكومة، لا أستطيع الانتظار حتى 20 يناير».
وأضاف: «لا ماء في صنابير مكافحة الحرائق، ولا أموال في وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية، هذا ما يتركه لي جو بايدن، شكراً جو!».
وأرجع العلماء في جامعة كاليفورنيا الحريق إلى نمط عالمي لما يسمونه تقلبات سريعة بين الطقس الرطب الشديد والطقس الجاف بشكل خطِر، ويقول الخبراء: إن الأمطار الغزيرة العام الماضي غذت نمو النباتات في منطقة لوس أنجلوس، والتي جفت منذ ذلك الحين وأصبحت شديدة الاشتعال.
وبمجرد اشتعال النيران ضربت المنطقة رياح سانتا آنا، وهي رياح شمالية شرقية دافئة وعاصفة تهب من داخل المنطقة باتجاه الساحل، على عكس الرياح المعتادة التي تأتي من المحيط الهادئ وتهب بشكل أكثر برودة.
أزمة التأمين
كانت كاليفورنيا تعاني بالفعل من أزمة التأمين على المنازل قبل جحيم لوس أنجلوس.
ووقد حذر مسؤولو صناعة التأمين من أضرار اقتصادية واسعة النطاق تعادل بعض أكبر كوارث الحرائق في الذاكرة الحديثة، مما قد يفوق الدمار الذي خلفه جحيم ماوي عام 2023.
وانسحبت شركات التأمين الرائدة من هناك، تاركة الكثيرين في طريق الحرائق مع تأمين أساسي فقط توفره شركة ترعاها الدولة كملاذ أخير، أو ربما لا يوجد تأمين على الإطلاق، ويعد أحد المجالات التي تثير قلقاً بالنسبة لشركات التأمين، هو تأثير الحرائق على الخطط التأمينية.