ثلاث سنوات بالتمام والكمال مرت على بدء الليرة بالانهيار الحر، ولا يوجد بعد معيار واضح لتصحيح الأجور. الدولار يحلق صعوداً، والقدرة الشرائية لمداخيل العمال تنحدر نزولاً. التقديمات العينية والمادية التي تعطى من خارج الأجر الاساسي، لا تلبث أن تذوب في "آتون" ارتفاع الاسعار. فلا هي تكفي من جهة لتأمين الحاجات الاساسية، ولا تساعد من الجهة الثانية على زيادة إيرادات الضمان الاجتماعي، لرفع تقديماته الصحية والاجتماعية.
في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار مختلف السلع والخدمات بنسبة تجاوزت 2000 في المئة، لم يزدد الأجر الأساسي للعامل إلا بنسبة 385 في المئة. وقد جرى رفعه في العام الحالي على مرحلتين الاولى في نهاية أيار، حيث زاد بمقدار مليون و325 ألف ليرة ليصبح 2 مليون ليرة. والثانية أتت بعد أقل من شهر بمقدار 600 ألف ليرة ليصبح الحد الادنى للراتب في القطاع الخاص المصرح عنه للضمان هو 2.6 مليون ليرة. وقد حرص المعنيون على اعتبار هذه الزيادة بمثابة "بدل غلاء المعيشة للمستخدمين والعمال الخاضعين لقانون العمل". ذلك أن الحد الادنى للاجور يجب أن "يؤمن الحد الأدنى من معيشة العامل". وهذا ما لا تستطيع الزيادة الهزيلة تلبيته.
تآكل الاجور
الأكيد أن رقم 2.6 مليون ليرة الذي يعادل 64 دولاراً بحسب سعر الصرف الحقيقي اليوم (أمس)، لا يكفي لتأمين المعيشة. وهو أعجز حتى عن تأمين الكهرباء من مولد الاشتراك. وقد دأبت معظم مؤسسات القطاع الخاص على اعطاء زيادات دورية أو شهرية لعمالها بالدولار، أو بالليرة من دون أن تدخلها في صلب الراتب. إلا أن هذه الزيادات التي تضمن وصول العمال إلى أشغالهم يومياً، لا تخضع لمقياس واضح أو حتى عادل. وهي تبقى أقل مما كان يتقاضاه العامل بالدولار قبل الازمة بكثير. إذ إن معظم الأجور تقل اليوم بالدولار حتى عن الحد الادنى الذي كان محدداً بـ 450 دولاراً أميركياً على سعر صرف 1500 ليرة.
في الواقع ترفض غالبية المؤسسات إعطاء العمال ما يعادل الاجر الذي كانوا يتقاضونه قبل الازمة، سواء كان بالدولار، أو كنسبة موازية بالليرة. وذلك يعود لعدة اعتبارات، أهمها: أن المنتجات تباع اليوم بأسعار أقل مما كانت عليه قبل بدء الليرة بالانهيار. فعلى سبيل المثال فان ربطة الخبز التي كان ثمنها 1500 ليرة، أو ما يعادل دولاراً واحداً، أصبحت تباع اليوم بـ 22 ألفاً، أي حوالى نصف دولار. مثلها أيضاً علبة البسكويت الشهيرة لأحد معامل الانتاج المحلية، فقد كان ثمنها قبل الازمة 4500 ليرة أي 3 دولارات، وأصبح سعرها اليوم 85 ألف ليرة أي أقل من 2 دولار. مرطبان الطحينة من ماركة معينة، سعة 950 غراماً، كان سعره 8000 ليرة، أو 6 دولارات، وأصبح سعره اليوم 160 ألف ليرة، أو ما يعني 4.2 دولارات. واللائحة تطول من منتجات بقي سعر مبيعها أقل بنحو 30 في المئة عما كانت تباع على أساسه قبل الازمة.
ربط الأجر بالإنتاج
بالاضافة إلى تراجع أسعار المبيع تتحجج الشركات بـ: تراجع المداخيل وانخفاض العوائد، نظراً لتراجع الاستهلاك وزيادة التكاليف، خصوصاً منها الكهرباء. من هنا برزت فكرة جدية عند بعض ممثلي العمال تضمن العدالة في الاجور لهم ولمؤسساتهم. وهي: إعطاء العامل أجراً يعادل ما كان يشتريه راتبه قبل الازمة من البضائع التي ينتجها المعمل الذي يعمل فيه. ولنفترض أن رامي كان يعمل في معمل ينتج الطحينة وكان يتقاضى 2.2 مليون ليرة. وكان سعر الوحدة التي ينتجها المعمل قبل الأزمة يعادل 8000 ليرة. راتب رامي كان يسمح له أن يشتري 275 وحدة منتجة. ومع وصول سعر نفس الوحدة المنتجة إلى 160 ألف ليرة، فيجب أن يصبح راتب رامي 44 مليون ليرة، ليؤمن له شراء 275 وحدة من السلعة التي ينتجها.
هذه الزيادة تبقى أقل مما كان يتقاضاه العامل قبل الازمة بالدولار، حيث أن راتب رامي يصبح 1000 دولار بعدما كان يساوي قبل الازمة 1500 دولار.
يحقق العدالة
أهمية هذا الطرح بالنسبة لمصادر العمال أنه عادل بالدرجة الاولى. فهو يختلف داخل المؤسسة الواحدة من فرد إلى آخر تبعاً للراتب الذي كان يتقاضاه سابقاً. وهو يسمح بتأمين مستوى عيش قريب مما كان يعيشه العامل قبل الانهيار. أما بالنسبة إلى المؤسسات فهو لا يحملها أي أعباء إضافية ذلك أن الرواتب مرتبطة بالسلعة المنتجة، وليس بمعدل عام قد يكون مربحاً للبعض ومكلفاً للبعض الآخر. كما أن هذا الطرح يعتبر متحركاً، وينخفض مع تراجع الدولار وانخفاض أسعار السلع في السوق.
الحد الأدنى لمعيشة الأسرة
هذا الطرح يتوافق مع أرقام "الدولية للمعلومات"، التي أشارت في تقرير إلى أن الكلفة الأدنى لمعيشة الأسرة اللبنانية المكونة من 4 أفراد فقط تبلغ اليوم 23 مليون ليرة شهرياً. وهي تفترض أن الاسرة تتناول بيضاً فقط طوال الشهر، بمعدل 6 بيضات للفرد الواحد، وتشتري الثياب من محلات بيع الألبسة المستعملة، وتضع أولادها في المدرسة الرسمية القريبة من السكن، من دون أن تتكبد كلفة النقل. وعليه فان الكلفة الادنى الحقيقية للمعيشة، هي رقم مضاعف بالنسبة لمعظم العائلات اللبنانية.
إنكماش الاقتصاد
الخبير الاقتصادي وعضو لجنة المؤشر د. أنيس بودياب الذي يتمنى أن تحتسب الأجور كما يطرح العمال، يعتبر أن هذا الطرح غير منطقي ولا يمكن أن يحظى بموافقة أرباب العمل. والسبب هو "تراجع حجم الاقتصاد ككل. الامر الذي انعكس أيضاً تراجعاً في حجم المؤسسات الانتاجية، التي لم يعد حجم عملها بنفس الحجم الذي كانت عليه قبل العام 2019. ومن الممكن الاستدلال على هذا الموضوع من مؤشر GDP (الناتج المحلي الاجمالي) الذي يعتبر معياراً لقياس وحدة الدخل بالنسبة للفرد. فقد تراجع من حدود 56 مليار دولار إلى أقل من 20 ملياراً اليوم".
لجنة المؤشر تعود إلى الإنعقاد
لجنة المؤشر التي تحاول التوصل إلى رقم عادل للاجور يوافق عليه أرباب العمل والعمال والدولة، تلقت دعوة من وزير العمل للانعقاد يوم الخميس المقبل. و"هناك توجه جدي لرفع الاجر مرة جديدة. خصوصاً أن ما أعطي من زيادات قبل أشهر قليلة ذاب نتيجة ارتفاع الاسعار"، بحسب بودياب. لكن من دون أن يعني ذلك امكانية احتساب الحوافز التي يعطيها أرباب العمل من ضمن الراتب، أو حتى التوصل إلى أجر يعادل أقله الحد الادنى الذي كان معمولاً به سابقا أي 450 دولاراً.
على الرغم من لجوء مؤسسات القطاع الخاص بشكل عام إلى دفع جزء من الراتب بالدولار، فان طرح بودياب في لجنة المؤشر لاعطاء العمال زيادة انتاجية متحركة للمساهمة بتحسين القدرة الشرائية للعامل لم يلقَ التجاوب المطلوب. ذلك أن هذا الطرح يرتبط بما يعرف بالسلم المتحرك للأجور الذي يحاول أرباب العمل تجنبه، وبارتفاع البدلات للضمان الاجتماعي وبالتالي التعويضات. وبرأيه فان "أرباب العمل يصرون على البدء بالاصلاحات، واقرار خطة تعاف، والاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح جدي قبل البحث بتغيير الحد الادنى للاجور.
الكل يراهن على تحسن الوضع الاقتصادي لكي يخطو باتجاه اعتماد زيادة حقيقية للاجور. إن هذه العملية التي يشترط أن تترافق مع الاصلاح ستتم على دفعات لغاية العام 2024 ووفقاً لتحسن انتاجية العمل والنمو الاقتصادي.
خالد أبو شقرا - نداء الوطن