مع اكتمال النصاب الدستوري في لبنان بانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة القاضي نوّاف سلام واعادة فتح أبواب مجلس النواب أمام ورشة تشريعية إصلاحية مرتقبة في المرحلة المقبلة، تواجه السلطة التنفيذية الجديدة تحدّيات كبيرة تفرض عليها العمل الجديّ والحثيث من أجل تحقيق أماني اللبنانيين. ومن أبرز هذه التحدّيات الآتي:
أولاً؛ تطبيق قرار وقف إطلاق النار وتنفيذ القرار ١٧٠١: لا تتحمّل الحكومة اللبنانية مسؤولية التعنّت الإسرائيلي والتهاون الأميركي في تنفيذ القرارات الدولية، لكنها تتحمّل مسؤولية التعامل مع أوضاع تتعلق بمخالفة إسرائيل لأحكام القرار ١٧٠١ وابرزها امتناع القوات الإسرائيلية عن الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية بذريعة السيطرة على خمس تلال ونقاط أخرى متفرقة في الحد الأمامي؛ من شأنها أن تُوفّر لها المراقبة والسيطرة وتعطي الاطمئنان لمستوطني الشمال الإسرائيليين بالعودة حيث ما زالت غالبيتهم لا تثق باستتباب الوضع. زدْ على ذلك استهداف مناطق مختلفة شمال الليطاني وجنوبه بذريعة مطاردة عناصر حزب الله! وللتذكير، نُنوّه إلى الفقرة الثانية من البند ٨ من القرار ١٧٠١ حول منطقة جنوب الليطاني: «اتخاذ ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية بما في ذلك إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان». وهذا يعني انسحاب حزب الله من هذه المنطقة وإغلاق كل مراكزه فيها. كما نُنوّه أيضاً بما ورد في البند الخامس من القرار المذكور وينص على الآتي: «يُعيد (مجلس الأمن) أيضاً تأكيده الشديد، حسب ما أشار إليه في جميع قراراته السابقة ذات الصلة، لسلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دولياً، حسب الوارد في اتفاق الهدنة بين إسرائيل ولبنان المؤرخ في ٢٣ آذار ١٩٤٩». وهذا يتطلب انسحاب إسرائيل ليس من النقاط التي تحتفظ بها في النزاع الأخير فقط، بل من ثلاث عشرة نقطة تحفّظ عليها الجانب اللبناني وفقاً للحدود المرسومة في اتفاقية الهدنة المذكورة يُضافُ إليها ما ضّمته إسرائيل من أراضٍ عُرفت بخراج الماري أو شمال العجر وفق ما ورد في "اللواء".
جاء التحفظ اللبناني على خريطة انسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما يسمّى «الخط الأزرق». كما نُنوّه إلى وجوب التوقف الإسرائيلي عن خرق الأجواء والمياه الاقليمية انسجاماً مع سلامة أراضي لبنان وسيادته. كما نلفت الانتباه إلى عدم التهاون بالبند ١٠ من القرار المتعلق بمزارع شبعا ومطالبة الأمم المتحدة بتنفيذه وينص على الاتي: «يُطلب إلى الأمين العام (للأمم المتحدة) أن يضع، من خلال الاتصال بالعناصر الفاعلة الرئيسية الدولية والأطراف المعنية، مقترحات لتنفيذ الأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، والقرارين ١٥٥٩ و١٦٨٠ بما في ذلك نزع السلاح وترسيم الحدود الدولية للبنان بما فيها مناطق الحدود المتنازع عليها أو غير المؤكدة بما في ذلك معالجة مسألة منطقة مزارع شبعا، وعرض تلك المقترحات على مجلس الأمن في غضون ثلاثين يوماً».
نشير إلى انه منذ نحو تسعة عشر عاماً لم تُشكّل هذه اللجنة ولم يصدر شيء عن الأمانة العامة للأمم المتحدة لتنفيذ هذه الفقرة وتحديداً حول مزارع شبعا. أما فيما يتعلق بالبند الثالث من القرار ١٧٠١، فإنه ينص على الآتي: «يؤكد (مجلس الأمن) أنّه من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كل الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل وبما يؤدي إلى عدم وجود أي سلاح بدون موافقة الحكومة اللبنانية وعدم وجود أي سلطة غير تلك التي تمارسها الحكومة اللبنانية».
هذا البند يخضع لصلاحية الحكومة اللبنانية ويُشكّل مادة نقاش داخلي بين القوى السياسية كافة لبحث بنود اتفاق الطائف ذات الصلة وتقرير استراتيجية دفاعية يكون أساسها تشكيل جيش قوي وقادر على حماية الحدود والداخل والتدابير المتخذة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. وعليه، فإن الحكومة الجديدة تواجه تحدي تنفيذ هذا القرار ١٧٠١ بأكمله ومواجهة محاولات اجتزاء القرار التي تقوم بها إسرائيل ومن يدعمها والتي تنفذ ما ترى فيه مصلحة لها وتهمل ما يوجب عليها التزاماً لمصلحة لبنان. ثانياً؛ إطلاق ورشة إعادة الإعمار: إنه التحدّي السياسي والإجتماعي والأمني الأبرز مثلما هو تحدٍ اقتصادي ومالي. ومن المعروف أن القوات الإسرائيلية، بعد التزام لبنان بوقف إطلاق النار، تقدمت في عمق الجنوب ودأبت على تفجير أعداد كبيرة من الوحدات السكنية ولا سيما في قرى الحافة الأمامية وهنا مكمن الأضرار الأساسية وهي تفوق أضرار حرب الإسناد نفسها. جرت هذه التفجيرات على مرأى ومسمع القوات الدولية (اليونيفيل) ولجنة الإشراف الدولية على وقف إطلاق النار التي يرأسها جنرال أميركي امتنع عن عقد اجتماعات لها بسبب حضور بند وحيد على جدول أعمالها هو تفجير منازل المواطنين في القرى اللبنانية الأمامية.
في قضية اعمار المناطق المهدّمة والمتضررة، لا يتوافر لدى الحكومة اللبنانية اية مبالغ وازنة لتنفيذ هذا المشروع الاعماري الكبير، كما أن الأمم المتحدة لم تتحدث عن الاعمار. أما إيران فهي تتعرض لضغوط كبيرة لعدم إرسال أموال إلى حزب الله في لبنان للإسهام في الإعمار ومن ضمن هذه الضغوط إلغاء رحلات الطيران الإيرانية المباشرة إلى لبنان والتفتيش الدقيق للركاب والحمولات من أي جهة أتوا، كما حصل قبل يومين مع أحد القادمين من تركيا.
يبقى اللجوء إلى المساعدات العربية الموعودة وخصوصاً من الدول الخليجية حيث يُعوّل المتضررون كثيراً على جولات رئيس الجمهورية الخارجية التي سيُدشنها غداً (الإثنين) بزيارة السعودية ومن ثم المشاركة في القمة العربية الإستثنائية المقررة في القاهرة. كما يُعوّل المتضررون على الحكومة ورئيسها للنجاح في الحصول على مساعدات للإعمار.
ثالثاً؛ إستعادة أموال المودعين: منذ ٢٠١٩ احتجزت أموال المودعين في المصارف اللبنانية وراح مصرف لبنان يُصدر تعاميم بدفع مبالغ زهيدة شهرياً لا تلبّي حقوق المودعين. الغريب في هذا الأمر أن أي مصرف لم يعلن إفلاسه ويُعيّن وكيل تفليسة من أجل وضع اليد على موجوداته وأملاكه في لبنان والخارج لدفع مستحقات المودعين. بقيت المصارف تعمل من دون دفع الودائع وخرج إلينا مصطلح الحساب الجديد أي (Fresh) وظلّ الحساب القديم مُجمّداً بانتظار تسوية الأزمة. حالياً لا تتوافر أرقام دقيقة حول قيمة الودائع وقيمة المتوفر في المصارف مع ودائعها لدى المصارف المراسلة في الخارج، فضلاً عن قيمة موجوداتها العقارية. في هذا السياق، وضع رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي إلياس (بصفته الشخصية) اقتراح قانون لإعادة أموال المودعين سلّمه إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي أحاله إلى اللجان النيابية. تسنّى لي الاطّلاع على هذا الاقتراح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وهو يشكّل أساساً لإعادة الأموال وتوزيع الخسائر بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان. ومن الممكن تسريع إقرار هذا القانون وتسوية أزمة تلف بخناقها على رقاب غالبية اللبنانيين.
أما فيما يتعلق بموظفي الإدارة العامة والأسلاك العسكرية والأمنية الذين أحيلوا إلى التقاعد بعد انهيار سعر صرف الليرة في عام ٢٠١٩ وما تلاه، والظلم اللاحق بهم جراء التراجع الكبير للقيمة الحقيقية لتعويضاتهم، فقد قدّم النائب شربل مسعد اقتراح قانون لإنصافهم يعتمد تسعيرة سنوية للدولار اعتباراً من ٢٠١٩ ويتم على أساسها إعادة احتساب التعويضات. يمكن للحكومة الانطلاق من هذا الإقتراح لإنصاف الموظفين وعدم تكريس ظلمهم كأمر واقع. رابعاً؛ العلاقات اللبنانية – السورية: بعد التغيير الذي حصل في سوريا ووصول سلطة جديدة بإدارة أحمد الشرع، برزت ملفات كبيرة بين البلدين أهمها الوضع الأمني في البقاع الشمالي وريف حمص الغربي ووضع القرى اللبنانية الواقعة داخل الأراضي السورية (عيّنت السلطات السورية اللبناني عبد الله شحاده، وهو جندي فار من الجيش اللبناني رئيساً للمخابرات في حمص والساحل).
يتطلب الأمر ترسيماً للحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا بسرعة كي لا يصبح غموض الحدود وخصوصاً البحرية عائقاً أمام استخراج النفط والغاز من قبالة الساحل اللبناني في الشمال. ومن أبرز مسائل الحدود البرية مزارع شبعا ومنطقة الطفيل وشمال الهرمل التي يتداخل بها سكان لبنانيون مع سوريين ومناطق اخرى مشابهة. وعلى الحكومة اللبنانية أن تتحرك لاعادة النازحين السوريين إلى بلادهم بعد انتفاء ذريعة المنظمات الدولية في السعي لإبقائهم في لبنان، بالإضافة إلى الالتفات إلى وضعية اللاجئين الفلسطينيين الذين يمنع الدستور اللبناني توطينهم.
خامساً؛ ملء المراكز الشاغرة في الدولة: تشير المعلومات إلى أن هناك ١٣٥ موقعاً في الفئة الأولى يشغلها موظفون بالوكالة. أبرز هذه المراكز هي قيادة الجيش والمجلس العسكري والمديرية العامة للأمن العام والدفاع المدني وحاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف التي تنتهي مدتها في أيار المقبل والعديد من المراكز القضائية لا سيما رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاء المجلس ومدعي عام التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي، فضلاً عن عشرات المدراء العامين في الإدارة.. يقع على عاتق الحكومة بكل أعضائها التدقيق في الأسماء المقترحة للتعيين والبحث عن الكفاءة والأهلية والنزاهة لكل موظف مع التشديد على عدم اسقاط شخصيات من خارج الملاك على وظائف الفئة الأولى إلا في حالات الضرورة القصوى واعتماد تقارير مجلس الخدمة المدنية وتقييم المرشحين من داخل الملاك وكذلك اعتماد معايير وزارة التنمية الإدارية. ستسعى الحكومة إلى إجراء اصلاحات وفقاً لما ورد في كلام رئيسها وسيكون للإصلاحات مقال خاص في وقت قريب بحسب "اللواء".