حوالي 700 ألف شخص سنويا يقدمون على الانتحار حسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية، فما أسباب الانتحار؟ وما كيفية الحد من هذه الظاهرة؟، ولماذا تزيد بين الشباب، وفي المناطق ذات المستوى الاجتماعي والاقتصادي المرتفع؟ وهل جسد الإنسان ملك خاص به يتصرف فيه كيفما شاء؟ وهل ما يقدمه الإعلام من صور البذخ والترفيه والحياة الافتراضية أو صور اليأس والإحباط تؤثر في شيوع الظاهرة؟
وسط هذه الأسئلة يطرح سؤال عن أسباب انتحار المتدين تحديدا، مع تعدد الحالات التي كان المنتحر فيها متدينا معروفا بمواظبته على الصلاة والصيام وحفظ القرآن، فحادثة انتحار الشخص المتدين تثير إشكالية حول مدى تأثير الدين على نفسيته ومزاجه، ومدى قدرة الدين على إيجاد حاجز له ضد الاضطرابات التي يتعرض لها.
المفترض أن يكون المتدين أبعد الناس عن الانتحار، لأن المشكلات المختلفة التي يعاني منها الشخص سيجد فيما يحفظه ويسمعه تفسيرا للمعاناة والأزمات، فإن كانت الأزمات مادية، فإنّ لدى المتدين إطارا شرعيا يقول: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، ولو كانت متعلقة بفقد عزيز، فلديه: (كل نفس ذائقة الموت)، وإن كانت متعلقة بظلم، فلديه: (المظلوم في معية الله وحفظه)، ولديه إطار جامع، فيه أن الدنيا دار ابتلاء ومصاعب، وكما قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم.. الجود يفقر، والإقدام قتال
فلماذا لم يكن التدين ضمانة للارتقاء بالصحة النفسية ووقاية من الاضطرابات والانتحار؟ هل المشكلة تكمن في التدين الشكلي، الذي يملأ صاحبه حماسة وتكفيرا وسبا وسخرية واستعلاء وتشددا وتعصبا؟ نحن نسأل ولا نقرر، ونطرح قضية أثر التصوف الحقيقي على نفسية الفرد كوقاية من التدين الشكلي، من حيث إن التصوف يملأ قلب الفرد نورا وجمالا ومحبة للناس والحياة، والتصوف تطهير للقلب وارتقاء بالإنسان نحو الرضا والقناعة والراحة وتهذيب للنفس وعلاج لآفاتها المختلفة، كالكبر والطمع واليأس والتطلع والقنوط والغفلة والغضب والاكتئاب والاضطرابات النفسية؟
ومن هنا وجدنا محاولات متعددة لاستكشاف مسالك القرآن في تعامله وتأثيره مع النفس البشرية، والمؤثرات والإيحاءات التي يستجلبها القرآن ويوظفها في إثارة النفوس وتحريكها وحملها على البذل والتفانى والحب والعطاء والنهوض والمشاركة والعمران والبناء، وللدكتور عبدالله الجيوسي كتاب: (التعبير القرآني والدلالة النفسية)، وسنرجع لهذا الموضوع لاحقا.
الدكتور الفاضل أحمد عبدالجواد حماد، طرح السؤال: لماذا ينتحر المتدين؟ وخلص في الإجابة إلى أن «عوامل الاضطراب بشرية بحتة، فالتدين ليس مجرد منظومة معرفية، بل تجربة شعورية قد تتخذ أبعادا متباينة بين الطمأنينة والقلق، والمتدين رغم امتلاكه لإطار عقدي يمنحه تفسير المعاناة، إلا أنه قد لا يمتلك الأدوات النفسية اللازمة لمواجهتها، ما يجعل الاستناد إلى التدين كحاجز مطلق ضد الانهيار النفسي أمرا غير صحيح، فالمشاعر السلبية تعتري الإنسان مهما كان تدينه، كما في قول السيدة مريم -عليها السلام- {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وهو تعبير عن أقصى درجات المعاناة النفسية، ولم يُقابل بوعظ مباشر أو بلوم إيماني، وإنما بوسائل دعم نفسية، ما يشير إلى أن المواجهة لا تتم من خلال التذكير المجرد بالنصوص الدينية، بل من خلال توفير شروط التخفيف النفسي والاحتضان الوجداني.
وهذا يثبت أن التدين وحده لا يمنع الانهيار النفسي، بل يظل مشروطا بمدى قدرة الفرد على استيعاب معاناته داخل منظومة تتيح له تفريغ شحناته العاطفية بطرق تتجاوز التنظير الوعظى المجرد، إلى تبني استراتيجيات إنسانية أكثر عمقا».
هذه سطور حول موضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسات والحلول.
الوطن