شعرة

تُثير العواصف الغبار والأتربة، وتبث القلق والوحشة، لكنّها فى بعض الأحيان، تنثُر بذور اللقاح لتمد أبسطة الخير بعفوية شرقًا وغربًا.

يبدو الجدل قديمًا، جديدًا، صاخبًا، صاحيًا، وحديًا كُلما طُرح ما دار فى الفتنة الكبرى أدبيا أو فنيا أو نقديا. لذا، فقد فتح المُسلسل الرمضانى الأحدث "معاوية" الذى أنتجته إم بى سى، وكتبه السيناريست السورى المتميز محمد اليسارى، وزميلنا الكاتب الصحفى خالد صلاح، والسيناريست السورى بشار عباس، باب نقاش مُحتدمًا حول الصراع وأهله، وأثار ضجيجًا من تيار يعتبر تمجيد مُعاوية هو تأييد فكرى للمدرسة العملانية الواقعية فى التاريخ الإسلامى، وانتصار لها على مدرسة الأخلاق والقيم، فى مواجهة تيار آخر مُنغلق ومتجمد يعتبر أى نقد لأى إنسان عاصر النبى، نوعًا من الافتئات على الدين نفسه، ليُضفى قداسة غير مُستحقة على بشر عاديين حتى لو سماهم البعض جميعًا بالصحابة.

لكن بعيدًا عن هذا الجدل غير القابل للحسم، وعن المحاكمة المُتسرعة للأعمال الفنية من مُنطلق عدم الالتزام بالشائع من التاريخ، فإن أهم ما يُحسب للمسلسل أنه تخطى عقبة سلفية مُتشددة طالما اعتبرت تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشات أمرًا منكرًا.

لقد تعددت تفسيرات كلمة الصحابة الممنوع ظهورهم فنيا بدءًا من "العشرة المبشرين بالجنة"، وصولا إلى كل مَن عاصر النبى عليه الصلاة والسلام. نتذكر جميعا أن فيلما عظيمًا وقيًما مثل "الرسالة" الذى أنتجه وأخرجه الراحل مصطفى العقاد سنة 1976، وقام ببطولته أنتونى كوين، ظل ممنوعًا من المشاهدة لسنوات عديدة فى كثير من الدول العربية لأنه يُجسّد حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول.

وأصدر الأزهر الشريف، كما أصدر المجمع الفقهى بمكة فتاوى عديدة تُحرم تجسيد الأنبياء والصحابة فنيا استنادًا إلى فتح الباب للكذب عليهم والتقليل من توقيرهم. وبنص فتوى مُجمع مكة فإنه "لا يمكن للممثلين مطابقة ما كان عليه الصحابة من سمت وهدى، والذين يقومون بإعداد السيناريو ينقلون الغث والسمين، وربما زادوا عليها أشياء يتخيلونها. وقد يتضمن ذلك أن يمثل بعض الممثلين دور الكفار ممن حارب الصحابة أو عذب ضعفاءهم، ويتكلمون بكلمات كفرية كالحلف باللات والعزى".

غيّر أن الفقه الشيعى فى أغلبه لا يرى تحريمًا أو كراهة فى ذلك، بل يجد ترحيبًا من العلماء بنشر سير الأنبياء والمعصومين من الأولياء، شريطة أن تقوم بذلك مؤسسات لها دراية بآداب هذا الفن ومقصد العمل الدرامى.

لكن لأن الأفكار تتبدل، وكثير من المُسلمات الزائفة تنجلى فقد تغيّرت نظرة الإنسان العصرى للفن عمومًا. تطورت السينما والدراما، تفتحت عقول أجيال جديدة، سقطت حواجز وقيود كانت مفروضة على الاطلاع والمعرفة بفضل تطور الاتصالات، فصارت أفلام عالمية مثل "موسى"، "آلام المسيح"، و"نوح" وغيرها مُتاحة للمشاهدة فى كل مكان.

رويدًا تغيرت الذهنية العربية، ولجأت شركات خاصة ومؤسسات معنية بالفن إلى تجاوز التحريم القطعى لتجسيد الصحابة على الشاشات. وانطلاقًا من فكرة عدم وجود نص قاطع يُحرم تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشات رأينا مسلسل "الحسن والحسين" سنة 2011، من تأليف محمد الحسيان، ومحمد اليسارى، وإخراج عبدالبارى أبوالخير، ثم رأينا بعد ذلك مسلس "عمر" سنة 2012 والذى كتبه وليد سيف وأخرجه حاتم على.

لم ينجرح الإسلام قيد أنملة نتيجة المشاهدة، ولم يوقف أحد المارة الفنان الأردنى محمد المجالى الذى جسّد شخصية الحسين فى الشوارع العربية ليتبارك به، ولم يُقبل الناس كف الفنان السورى سامر إسماعيل تكريمًا باعتباره عمر بن الخطاب. كما لم تنتقص الأعمال الفنية من أقدار الصحابة أو أى من الشخصيات التى تحظى باحترام وتقدير الناس. وظل هناك خيط واضح فى عقول الناس بين الوجود الحقيقى للشخصيات، وما صورته الأعمال الفنية.

غير أن استسهال نفض اليدين، والفرار من المسؤولية دفع أجيالا جديدة من فقهاء العصر فى بلادنا إلى تلاوة فتاوى الماضى دون نظر أو اجتهاد باعتبارها مسلمات. آخذًا بالأحوط، وبعد عرض مسلسل "معاوية" كرر الأزهر الشريف فتوى تحريم مُشاهدة الصحابة على الشاشات. لم ينظر هؤلاء فيما جد واستجد، لكنهم أيضا لم يُقلبوا فى دفاترهم القديمة جيدا، لأنهم لو فعلوا لوجدوا قبل أكثر من نصف قرن فتوى مُبهرة لعالم أزهرى عظيم هو عبدالمتعال الصعيدى. هذا الرجل هُمشت أفكاره، وجُنبت اجتهاداته فى ذروة المد الأصولى بالشارع المصرى، ولولا كتاب حديث كتبه الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية، عنه لما سمعنا به.

يقول الرجل فى كتابه (فى ميدان التجديد) "لا شك أن التمثيليات التى تصاغ فيها قصص الأنبياء – عليهم السلام- سيراعى فيها ما لهم من كريم منزلة، وما لهم من القداسة والعصمة والطهارة، وسيكون الغرض منها إظهار ما كان لهم من أغراض شريفة فى قصصهم، وما كان من مقاصد نبيلة فى رسالاتهم، ولا شىء مع هذا يخل بقداستهم، وإذا قام شخص فى تمثيله مقام نبى فإنه يقوم به صورة فقط، ولا يمكن أن يتوهم شخص أنه حلّ فى التمثيلية مقامه فى كل شىء حتى يكون فيها امتهان له".

لكن مَن يسمع؟ ومَن يقرأ؟ ومَن يتعلم؟ ومَن يجرؤ على الكلام؟

الله أعلم.

المصري اليوم

يقرأون الآن