خفايا صراعات المنطقة

هناك خفايا كثيرة في الصراعات التي تحدث في المنطقة، وأول هذه الخفايا عدم قدرة قيادات وشعوب المنطقة على فهم شخصية وعقلية الإنسان الغربي، سواء أكان أوروبياً أو أميركياً أو حتى إسرائيلياً، وبنفس الوقت القدرة الاستثنائية الدقيقة عند الإنسان الغربي لفهم شخصية وعقلية الإنسان الشرقي، لأنهم ببساطة يدرسون كل صغيرة وكبيرة تخص حياة مجتمعاتنا دراسة علمية دقيقة. فمن المفارقات الغريبة اختلاف الرؤى بين الجهتين.

الإنسان في مجتمعاتنا، سواء على مستوى القيادة أو على المستوى العادي، عندما يدخل في صراع مع الطرف الآخر يحاول أن يظهر قسوة مفرطة ليرسل رسالة إلى الطرف الآخر مفادها أنه لا يخشى عواقب الأمور، وأنه جريء وشجاع وقادر على فعل أي شيء. هذا التصرف هو في حقيقة الأمر تصرف مصطنع هدفه زرع الرعب والخوف في قلب الطرف الآخر، وتنتهي هذه القسوة مع انتهاء الصراع وبداية المصالحة، فتظهر بعدها شخصيته الحقيقية الناعمة العطوفة التي تبكي عند سماع الأغاني الحزينة، لأنَّ البيئة الشرقية هي بيئة عاطفية بالأساس.

الغرب درسوا الشخصية الحقيقية والشخصية المصطنعة في مجتمعاتنا، وعرفوا كيف يتعاملون مع كل شخصية على حدة. بينما لو ذهبنا إلى طبيعة الشخصية الغربية، التي ما زال غالبيتنا يجهلها، سنجدها تختلف تماماً عما هو موجود في مجتمعاتنا. فالشخصية الغربية تحاول أن تجعل القوانين هي التي تتحكم بشخصيتها، حتى السلوك الأخلاقي يخضع لهذه القوانين. فالقوانين تجبره على أن يبتسم في وجهك، والقوانين تجبره على أن يتعامل معك باحترام وعاطفة وإنسانية. أمَّا شخصية الإنسان الغربي الحقيقية خارج ضغط القوانين، فهي شخصية قاسية جداً، فالذي يقود حياة المجتمع على المدى البعيد هو الشخصية الحقيقية لا الشخصية المصطنعة.

وبما أنَّ سكان الغرب عرفوا بطبيعتهم القاسية، عمدوا إلى جعل الحياة تقودها القوانين وليس النوازع الخاصة، كي يضيفوا للحياة جمالية وألفة، فجعلوا لحقوق الإنسان قوانين، ولحقوق المرأة قوانين، ولحقوق الطفل والحيوان قوانين، ووضعوا لكل شيء قوانين كي يقطعوا الطريق أمام النوازع الشخصية. لذلك تجد عندهم القوانين حدية لا ترحم ولا تسامح، نظراً لمعرفتهم بجذور الإنسان الغربي القاسية. هذه الحقيقة لا يفهمها قادة وشعوب دول المنطقة، فيعتقدون أنهم يعاملون الغرب بما ظهر منهم. فحين يتعاملون بالقسوة مع الغرب، يظنون أنهم سيدفعونه إلى الخوف والتراجع، لأن المجتمع الغربي مجتمع يخاف على حياة الإنسان وحقوق الإنسان. بينما الواقع هو العكس، فعندما تُفرض القسوة عليهم، تكون ردة فعلهم أقسى، ويصبون جام غضبهم على من جاءهم بالقسوة.

هذا الفهم الخاطئ أوقع قيادات دول المنطقة في أخطاء تاريخية وتورطوا ولم يعودوا قادرين على التخلص من هذه الورطة، لأنهم لم يكونوا يتصورون مدى قساوة الغرب. فكان يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، الذي أظهرت فيه حماس قسوة مفرطة ضد الإسرائيليين، يوماً شاهداً على هذا الخطأ الكبير.

ماذا كانت النتيجة؟

النتيجة كانت فرصة لتحرر الإسرائيليين ومن يدعمهم قليلاً من القوانين الأخلاقية التي فرضوها على أنفسهم، وليظهروا قسوتهم، وليذيقوا حماس ومن يقف خلفها المرارات. ولولا رحمة القوانين الإنسانية التي هم وضعوها وفرضوها على أنفسهم، لأبادوا مدناً وبلدات بدم بارد، خاصة أنهم يمتلكون من السلاح المدمر ما لا يجاريهم به أحد. لو طالع أيّ شخص أحداث الحرب العالمية الثانية في أوروبا، التي راح ضحيتها حوالى خمسين مليون إنسان، وقرأ بتمعن درجات القسوة التي كانت تُمارَس بين الأطراف المتحاربة في العالم الغربي، لأقسم بالله ألف مرة ألا يتورط مع الغرب.

وقد تكون ضربة هيروشيما وناكازاكي بالقنابل النووية أثناء الحرب العالمية الثانية مجرد بداية، فلو استمرت اليابان في عنادها ولم تستسلم، لكانت اليابان قد مُحيت من الجغرافيا. فهل حماس وإيران والحوثي مجانين ليتعاملوا بالقسوة وإظهار القسوة مع الغرب؟

جميع القوانين الإنسانية والمنظمات الإنسانية والمنظمات الدولية، بقوانينها الجميلة اللطيفة، جميعها تم تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية من قبل دول العالم الغربي. والغرب هو من أسسها بعد أن ذاق ويلات الحروب وبشاعة الجرائم التي تصاحب الحروب، بسبب قساوة الأطراف المتنازعة وخلو الرحمة من قلوبهم. فهم قد أدركوا من خلال تلك الحروب أن القسوة قد تنهي الحياة على الأرض، لذلك فرضوا تلك القوانين للحفاظ على وجود البشر وكرامة البشر.

بهذا الشكل يجب فهم العالم الغربي، العنيد جداً والقاسي جداً إن حاولت إيذاءه. هذه واحدة من الأشياء التي حان الوقت لمعرفتها قبل أن تقع قيادات المنطقة في الخطأ الكبير.

لغة العنتريات والتهديدات أضحت لغة منتهية الصلاحية، فالمطلوب هو اللغة الدبلوماسية والقبول بالحوارات، فهم أصبحوا يعرفون عنك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك. فهم يعرفون من أنت، وماذا تملك، وما هي مقدرتك. فهل تريد خداعهم بالأوهام والأكاذيب والتضليل لتخيفهم بما لا تملك؟

أظن أن هذا جانب مهم جداً يجب على شعوب وقيادات المنطقة، التي تريد أن تجرب حظها من جديد في مواجهة العالم الغربي، معرفته بدلاً من التلويح بالعصا الغليظة. عسى أن تنفعهم المعلومة الصحيحة، وألا تخدعهم تخيلاتهم وأوهامهم وعواطفهم، وأن يتوقفوا عن الاستعراضات والتخويف واللعب مع الموت، لئلا يريهم الزمان ما لم يكن في الحسبان، فيصبحوا نادمين! وما قيمة الندم بعد حين؟

يقرأون الآن