إن انتشار الأخبار السلبية بشكل مستمر ليس مجرد نتاج للمنافسة الإعلامية، بل هو ظاهرة هيكلية ونفسية ذات تداعيات بعيدة المدى.
صورة تعبيرية
فالكوارث والأزمات والإخفاقات المجتمعية تهيمن على العناوين الرئيسية للأخبار، مما يعزز تحيزا فطريا لدى الإنسان نحو التركيز على التهديدات. وإذا استمر هذا الاتجاه دون رادع، قد يؤدي إلى عواقب خطيرة مثل انتشار التبلد العاطفي، وزيادة القلق العام، وتآكل الثقة المجتمعية.
لذلك، من الضروري دراسة الآثار المعرفية والاجتماعية لهذه الظاهرة قبل أن تؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في الخطاب العام وقدرة الأفراد على الصمود النفسي.
تضخيم الإعلام للشدائد
تعمل المنظومة الإعلامية الحديثة في إطار "اقتصاد الاهتمام"، حيث يتطلب تحقيق الربح من المشاركة الاعتماد على الإثارة.
فالأخبار السلبية تحقق معدلات تفاعل أعلى، مثل عدد النقرات والوقت الذي يقضيه القراء في المقال ومشاركات وسائل التواصل الاجتماعي، مقارنة بالأخبار الإيجابية.
وهذا يخلق حلقة مفرغة، حيث تعطي وسائل الإعلام الأولوية للمحتوى المصمم لإثارة الخوف أو الغضب أو الضيق.
من الناحية النفسية، فإن ما يُعرف بـ"الاستدلال التوافقي" يفاقم المشكلة: التعرض المتكرر للأخبار السلبية يجعل الأحداث السيئة تبدو أكثر تكرارا وشيكا مما هي عليه في الواقع.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن "التحيز التأكيدي" يدفع الأفراد إلى البحث عن الروايات المقلقة التي تعزز مخاوفهم المسبقة، مما يعمق لديهم نظرة قاتمة للعالم.
ونتيجة لذلك، يصبح إدراك الناس للواقع مشوها، مما يزيد من التشاؤم العام ويغذي الشعور بالعجز.
الروايات المضللة في المجتمع
إن أحد الأمثلة الصارخة على هذه الظاهرة هو الصورة النمطية السلبية عن أساتذة الجامعات.
فوجود عدد قليل من الأكاديميين المثيرين للجدل الذين يعبرون عن آراء متطرفة، يجعل الكثيرين يعتقدون أن المهنة بأكملها مليئة بالتطرف الأيديولوجي.
لكن في الواقع معظم الأساتذة هم معلمون مخلصون يركزون على البحث والتعليم وتعزيز التفكير النقدي. ومع ذلك، فإن التركيز الإعلامي على الحالات الاستثنائية يخلق صورة مشوهة تؤثر على الرأي العام وحتى على القرارات السياسية.
وبالمثل، يمكن النظر إلى إجراءات أمن المطارات. الإجراءات المشددة التي يخضع لها المسافرون، مثل خلع الأحذية والتخلص من السوائل والفحص الجسدي، هي رد فعل على عدد ضئيل من الأفراد الذين يشكلون تهديدا.
فالغالبية العظمى من المسافرين لا يشكلون أي خطر، لكن أفعال القلة تُفرض على الجميع. هذا النهج يعكس نمطا أوسع، فغالبا ما تُصاغ السياسات والقوانين استجابة لحوادث نادرة ولكنها مثيرة للاهتمام، بدلا من الاعتماد على البيانات والإحصاءات.
المشكلة في السياسة
تظهر هذه القضية بوضوح في المجال السياسي، حيث يتم تصوير الفضائل المعزولة أو الشخصيات المثيرة للجدل أو المواقف المتطرفة على أنها تمثل أحزابا أو أيديولوجيات بأكملها.
ويمكن لسياسي فاسد واحد، أو لحظة احتجاج تنتشر على نطاق واسع، أو تعليق استفزازي، أن يشكل صورة الجمهور عن حركة سياسية كاملة.
ويؤدي التدفق المستمر للأخبار السياسية المثيرة إلى زيادة الاستقطاب، حيث يستخدم كل طرف الأمثلة المتطرفة لتشويه صورة الطرف الآخر.
وهذا التشويه يخفي حقيقة أن معظم الآراء السياسية تتراوح على طيف واسع، حيث تفوق المواقف المعتدلة والمتزنة تلك المتطرفة بكثير.
ومع ذلك، فإن التركيز على الجدل يضمن أن تهيمن هذه المواقف المتطرفة على السرد العام، مما يعمق الانقسامات ويغذي عدم الثقة.
وتؤثر هذه الظاهرة أيضا على أولويات التشريع. فيتم سن العديد من القوانين استجابة لحوادث فردية تلفت انتباه الرأي العام. ويمكن لحادثة مأساوية واحدة أن تؤدي إلى تغييرات سياسية واسعة النطاق، على الرغم من أن البيانات تُظهر أن مثل هذه الحوادث نادرة.
وهذا النهج التفاعلي غالبا ما ينتج عنه قوانين لا تعالج القضايا الجوهرية، بل تفرض قيودا واسعة بناء على استثناءات وليس على قواعد.
الجذور التطورية والعصبية
من الناحية التطورية، طور البشر تحيزا نحو السلبية كآلية بقاء، أولئك الذين كانوا أكثر وعيا بالتهديدات كانوا أكثر قدرة على تجنب الخطر.
ومع ذلك، في العالم الحديث، أصبح هذا التحيز غير مفيد.
فالجهاز الحوفي في الدماغ، وخاصة اللوزة الدماغية، يتفاعل بقوة مع المنبهات السلبية، مما يؤدي إلى حالة من اليقظة المفرطة المستمرة والإجهاد.
والتعرض المزمن للأخبار المقلقة يزيد من إفراز هرمون الكورتيزول، مما يساهم في اضطرابات القلق ومشاكل النوم وحتى الاكتئاب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن "العدوى العاطفية"، حيث يمتص الأفراد المشاعر السلبية من المحيطين بهم، تساهم في انتشار الخوف والقلق داخل المجتمعات.
في العصر الرقمي، حيث تعمل الخوارزميات على تضخيم المحتوى العاطفي المشحون، يصبح هذا التأثير أقوى. فمنصات التواصل الاجتماعي، على وجه الخصوص، تستفيد من هذه الديناميكية، مما يعزز الانقسام ويزيد من الضيق الجماعي.
العواقب المجتمعية للتعرض المفرط للأخبار السلبية
إن الغمر طويل الأمد في بيئة إعلامية سلبية له عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة. فالمجتمع الذي يتوقع الكوارث يفقد الثقة في المؤسسات، مما يعزز السخرية والانفصال.
ويرتبط التعرض المستمر للأخبار السلبية بانخفاض المشاركة المدنية، وزيادة الاستقطاب، وانخفاض الثقة في الحكومات. وهذا التآكل في الثقة العامة يخلق بيئة غير مستقرة حيث تنتشر المعلومات المضللة وتكتسب السياسات الانفعالية شعبية.
علاوة على ذلك، تصبح "الشماتة"، الميل النفسي للاستمتاع بمعاناة الآخرين، آلية للتكيف للأفراد الذين يشعرون بالإرهاق من القلق. وهذا يؤدي إلى مزيد من تدهور التماسك الاجتماعي، حيث يتم استبدال التعاطف بالانفصال. والنتيجة النهائية هي مجتمع مشلول بالخوف، غير قادر على التحرك نحو حلول بناءة بسبب الإرهاق الجماعي وخيبة الأمل.
وإذا استمر هذا المسار، فإننا نخاطر بتفاقم حالة نفسية عالمية هشة. وهناك حاجة إلى تدخلات استراتيجية لإعادة ضبط عادات استهلاك الأخبار والتخفيف من الآثار السلبية للتركيز المستمر على السلبية.
1. تعزيز الثقافة الإعلامية: يجب أن تركز برامج التعليم العام على تعليم الأفراد كيفية تحليل الأخبار بشكل نقدي، وتحديد المحتوى المبالغ فيه، وفهم السياق الإحصائي للأحداث.
2. شفافية الخوارزميات: يجب أن تتحمل المنصات التكنولوجية المسؤولية عن تعزيز التحيزات السلبية في توصيات المحتوى. يجب أن تشجع الأطر التنظيمية تقديم محتوى متوازن.
3. التنظيم الذاتي: تشجيع الأفراد على تقليل استهلاك الأخبار السلبية، والتركيز على المحتوى الإيجابي أو الحلول العملية، يمكن أن يساعد في تحسين الصحة النفسية.
4. تحسين التواصل المؤسسي: يجب أن تعمل الحكومات والمنظمات على تقديم معلومات دقيقة وشفافة أثناء الأزمات، لمكافحة المعلومات المضللة وبناء الثقة.
إن الميل البشري لاستهلاك الأخبار السلبية هو نتاج تطوري يتم استغلاله الآن من قبل القوى الاقتصادية والتكنولوجية. فإذا تُرك دون معالجة، فإن العواقب تتجاوز الصحة النفسية الفردية إلى خلل مجتمعي واسع.
وأجراس الإنذار تدق، فالتعرض غير المنضبط للأخبار المقلقة يزيد من القلق الجماعي، ويعيق الحوار العقلاني، ويضعف الاستقرار الديمقراطي.
وللتغلب على هذه الأزمة، يجب على الأفراد ووسائل الإعلام وصناع السياسات أن يدركوا التأثير العميق للتركيز المستمر على السلبية. فقط من خلال التغيير المنهجي والمتعمد يمكننا استعادة السيطرة على كيفية استهلاكنا للأخبار، وإعادة بناء نظرة أكثر توازنا وواقعية للعالم.