في اتصالين هاتفيين بدأ الرئيسان الأميركي والروسي يغيّران مجرى الحرب التي أنهت لتوّها عامها الثالث في أوكرانيا، ويأمل العالَمُ في أن يشهد قريباً أول وقفٍ لإطلاق النار فيها، ليبدأ بعده العمل على اتفاقٍ للسلام. من بين الأطراف المعنية، وحدها الولايات المتحدة تبدو متعجّلة للانتقال نحو المراحل التالية في التفاوض، وللتوصّل إلى نتائج. ولأجل ذلك تعمل إدارة دونالد ترامب مباشرة مع موسكو وكييف، موحيةً أكثر فأكثر بأنها لم تعد معنيةً بـ«التحالف الغربي لدعم أوكرانيا» الذي أنشأته الإدارة السابقة.
لكن الحلفاء الأطلسيين، خصوصاً الأوروبيين، استشعروا خطراً لا يتعلّق بالتداعيات على أوكرانيا فحسب، بل بانعكاس أي اتفاقات أميركية روسية على الأمن الأوروبي، وعلى حلف شمال الأطلسي («الناتو») كمنظمة محورية في الأمن الدولي. في الولاية السابقة للرئيس ترامب مرّت العلاقات الأميركية الأوروبية بفترات صعبة، لكنه استطاع أن يفرض على الدول الأعضاء في «الناتو» مبدأ زيادة مساهماتها في ميزانية الحلف كي يتمكّن من الحفاظ على التزام أميركا بالدفاع عنها في مواجهة أي «خطر روسي» محتمل.
آنذاك لم تكن هناك حرب بعد في القارة القديمة، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أطلق عبارتَه الشهيرة عن «الموت السريري للناتو»، ثم راح قادة أوروبيون ينبّهون إلى احتمال تخلّي أميركا عن التزاماتها وضرورة أن تتهيّأ أوروبا مجتمعةً للدفاع الذاتي المستدام. ما لبثت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أن أعادت الروح إلى التحالف الغربي بقيادة إدارة جو بايدن، لكن إشغال روسيا بحرب مفتوحة ومكلفة من دون حسم، شكّل أيضاً استراتيجية مكلفة وغير مجدية للغرب، بدليل الخلافات التي كانت تظهر داخل التحالف كلما آن أوان زيادة الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا.
خلال الحملة الانتخابية طرح ترامب أفكاره عن إنهاء الحرب وإنهاء القطيعة مع روسيا، كما كرّر مواقفه «المنقّحة» هذه المرّة من العلاقة مع «الناتو». وفور إعلان إعادة انتخابه رئيساً تصاعد القلق في أوساط الاتحاد الأوروبي، لكن مع تأكيد الرغبة في إنهاء الحرب وتداول سيناريوهات في هذا الشأن، غير أن الاتصال الأول بين ترامب وبوتين والاتفاق على عقد اجتماعين في الرياض وإسطنبول والشروع في تطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو، دقت ناقوسَ الخطر في أوروبا، لأن ترامب لم يحرص على أي تشاور مسبق أو لاحق مع الحلفاء، وقد استقبل الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني بناءً على طلبهما.
ثم كان اللقاء العاصف مع الرئيس الأوكراني في البيت الأبيض بمثابة إنذار حاسم بأن ترامب لن يتراجع أبداً عن خياراته. خلال أقلّ من شهر، وجد الأوروبيون أنفسهم مدفوعين إلى التفكير، للمرّة الأولى منذ تسعين عاماً، في تحالف غربي من دون الولايات المتحدة، وبالرغم من اقتناعهم بأن لا غنى عنها فإنهم باتوا يقرّون الآن بأنها «غير موثوق بها».
ومجرد أن يتصدّر الحليف البريطاني الأقرب لأميركا مساعي بلورة خطط الدفاع الأوروبي المقبل وإقامة «تحالف الراغبين» في إرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق سلام، يعني أن الصيغة المعروفة للأمن الغربي بصدد تغيير جذري، وهي التي شكّلت ركيزةً للنظام الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ويعكف الخبراء على درس تفاصيل خطّة الـ800 مليار دولار سنوياً لـ«إعادة تسليح أوروبا» عبر تعزيز الصناعات الدفاعية واستعادة الردع النووي البريطاني الفرنسي بتوسيع نطاقه. ولا شك في أن هذه المهمات ستفرض أعباء على الاقتصاد الوطني وستحتم اقتطاعات من ميزانيات التنمية والرعاية الاجتماعية.
الاتحاد