سقوط الشيوعية كان حالة طبيعية نتيجة تنافر الواقع مع النظرية، وسقوط الإخوان قادم لا محالة بعد ما أحدثوه في غزة وانعكاس ذلك على الشارع الذي يفرض بشكل تلقائي حالة من تنافر الوعي مع الأيديولوجيا، فليس بالإمكان إعادة إنتاج وتكوين بنية باطنية تعيد إدراج الإخوان في صدارة المشهد، لأن الإخوان بقوا غارقين في تفسير كتاب الرسائل طوال العقود الماضية والذي ظل "حسن البنا" يحكمهم فيه من قبره، وبالتالي إن تنافر الوعي مع الأيديولوجيا بالنسبة للإخوان سيكون حاداً بالشكل الذي يفتقد فيه الإخوان حتى المظلومية، التي كانت بالنسبة لهم مدخلاً يجلب التعاطف ويجنبهم تحمل المسؤوليات عما مضى.
هناك 1318 عاماً هي عمر الإسلام قبل مجيء الإخوان المسلمين، انتقل خلالها الإسلام في مراحل شتى، وجغرافيا طالت بقاع الأرض، وهناك ولادة سياسية أخرجت هذا المشهد بأكمله، وقامت بنشر بنية باطنية تستند خارج نطاق المكان على جدران عصر الأيديولوجيات، وبالتالي اقتبست وتركت وأحضرت وأهملت، ثم صنعت كينونة قابلة للعيش ككيان افتراضي لكنه لا يهبط مطلقاً في الواقع، وبالتالي إن وجه الأزمة الحقيقي هو ليس في لون السلطة فقط، بقدر الهواجس التي أصبحت فيها فكرة الاحتفاظ بالسلطة حالة شهوانية تتجاوز الغرائز غير الإنسانية في قانون الغاب، وبالتالي بات منظر الأشلاء البشرية الذي لا تحتمله حتى الأنفس الشّح قابلاً للمساومة، في عمليات البيع والشراء لما يريدونه أن يضمن بقاء الجسم الاخواني متماسكاً في غزة.
الأيديولوجيا تعمل جيداً في حالات الانغلاق، أو في حالة الاستقرار النسبي الممزوج بأجواء استثنائية وربما تنجح نسبياً في الأزمات المؤقتة لأنها غالباً تنطلق عبر نظرية المؤامرة، غير أن الأيديولوجيات تسقط في حالة الصدمات، لأن وعي ما بعد الصدمة يستنزف المخزون الفكري، ما يجعل العين مصوبة على الأيديولوجيا. ففي حالة النظرية الشيوعية كانت الصدمة الأولى سنة 1980 في بولندا مع انتفاضة نقابات العمال، الذين لم تعمل الأيديولوجيا على إشباعهم أمام حاجتهم للخبز، وبالتالي فاقت صحوة الرغيف نظرية المؤامرة وتصدير الشيوعية، وهذه مجرد مقاربة، لكنها ليست تفصيلية بما سيواجهه الإخوان، لكن ثنائية الجوع والقهر والشعارات الشعبوية كانت أداة حزب الله والحوثي وعموم الميليشيا، وفوقها نظريات المؤامرة والبطولة التي ستخرج من "طائر الفينيق" أيضاً الذي ظل اليساريون يسجلون هزائمهم بانتظار ميلاد هذا الطائر الخرافي، ولم يأت هذا الطائر الخرافي، ولم يأت التغيير الذي وعد به الإخوان، وبالتالي مصير الإخوان المسلمين هو مصير الذين سبقوهم من أصحاب الأيديولوجيات، والتي مهما اختلفت في ظاهرها فجوهر الأيديولوجيات واحد أنها تمتص جلد الفقراء، ولا تورثهم سوى الشعارات الفضفاضة.
هنا نقول، ما حدث في غزة ليس صورة لأهل غزة يرونها بأنفسهم فحسب، ولكن هو صدمة لعموم ذوي الفكرة التي يعني الاشتغال فيها ضياع ملايين البشر لقاء انتصار فكرة موعودة فقط، فما قبل سنوات الإخوان مضت 1318 عاماً جاءت ورحلت خلالها كثير من الممالك والإمارات الإسلامية على امتداد جغرافيا الأرض، ورحلت الممالك وبقي الإسلام، فليس صحيحاً ترويج مقولة أن الإخوان هم من أنقذوا الإسلام من الفناء في عصر الاستعمار، وليس صحيحاً ما يقولون إنهم مشروع الأمة، لأن مشروع الأمة لا يحشر قلة من الناس يتنازعهم الفقر والقهر ويطلب منهم أن يتحملوا أطماع السياسة، فالإخوان يرون في خروج غزة من قبضة الإخوان سقوط مشروع الإخوان ذاته، لأنه مشروعهم بالأساس مولود ليحول دون تحقيق معادلة وفكرة الدولة، فإذا انتصرت فكرة الدولة سقطت فكرة الخلافة من منظورهم، من هنا تكمن غزة، وتكمن الضفة، لأنهم يريدون حدوداً غير مرئية، وعالماً ظنياً ينجحون في العبور فيه، بعيداً عن مساحات الوعي التي تحول دون هذا العبور الوهمي الكبير.
استبداد الأيديولوجيا الذي جاء به الإخوان لا مثيل له، ففي عصر الأيديولوجيات كان العدو أغلب الوقت في الخارج، أو ثمة مصالح طبقية تربط بعض الداخل والخارج، إلاّ في حالة الإخوان فهم جعلوا ركيزة العقل البنيوي أن عدوهم في الداخل، في نظام الدولة، وفي الشارع والبيت وفي الأسرة الواحدة ومجمل الذين لا يبايعون الإخوان على فكرتهم.
المسألة الطبيعية الكائنة هي تنافر الأيديولوجيا الإخوانية مع الوعي الذي لا يمكن أن يعيش الخديعة، ولا يمكن أن يقر للإخوان بفكرة المظلومية بعد اليوم.
العربية