السؤال في سوريا والعالم العربي وأميركا وأوروبا وسط عدم اليقين هو إلى أي حد يستطيع الرئيس أحمد الشرع التخفف من حمولات الجهادية السلفية، ويمكّن الانتقال من انفتاح محدود لـ "هيئة تحرير الشام" إلى انفتاح كامل على التنوع السوري؟
قصيرة كانت فترة العلاقات الأخوية الناعمة بين لبنان وسوريا، من الاستقلال إلى القطيعة الاقتصادية بقرار سوري كان بطله خالد العضم، والباقي غربة ثقافية بين حكام لبنان الكلاسيكيين وضباط الانقلابات العسكرية في سوريا، وصدام سياسي وعسكري عبر أحداث 1958 في لبنان أيام الوحدة المصرية - السورية، ثم استيلاء البعث على السلطة وحكم آل الأسد السلطوي في سوريا والهيمنة عسكرياً وسياسياً على لبنان.
بعد الاستقلال، ومع تأسيس الجامعة العربية، احتاج لبنان إلى رعاية مصرية ودعم سعودي لتثبيت موقعه ودوره وتخلي دمشق عن تحفظاتها عبر جميل مردم بك، واليوم يحتاج لبنان وسوريا إلى رعاية سعودية ودعم أميركي لبناء علاقات طبيعية بين بلدين عربيين، لا في إطار"شعب واحد في دولتين"، كما كان الرئيس حافظ الأسد يردد، ولا في إطار شعبين في دولة واحدة كما كان الواقع الذي فرضته الوصاية السورية، والرياض تعرف من خبرتها ومساعيها المباشرة على مدى أعوام حجم الإرث غير الطبيعي الذي يجب تجاوزه لتنظيم مسار العلاقات الطبيعية بين بيروت ودمشق، فلا بد من أن يتوقف السوريون عن التصرف على أساس أن لبنان "خطأ تاريخي"، وأن يقطع بعض اللبنانيين مع الدعوات التي يعتبر أصحابها أن لبنان "خطأ جغرافي".
ولا حاجة بعد أكثر من 100 عام للتذكير بأن جبل لبنان كان "متصرفية" ذات حكم ذاتي في ظل السلطنة برعاية الدول السبع الكبرى، وسوريا كانت ولاية عثمانية، وأن الجنرال غورو لم يعلن "لبنان الكبير" عام 1920 قبل أن يدخل دمشق وينفي حكومة الملك فيصل ويرسم حدود الجمهورية السورية تحت الانتداب، بحسب "اتفاق سايكس- بيكو"، وما كان ممكناً الرهان على تجديد الرعاية السعودية والدعم الأميركي قبل التحولات المتسارعة في المنطقة بتأثير حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد وانحسار النفوذ الإيراني، وهذا ما سمح بقيام عهد الرئيس جوزاف عون وحكومة جديدة برئاسة نواف سلام، وإمساك إدارة جديدة بالوضع في سوريا، ومن هنا فرصة البلدين من خلال الرعاية السعودية والدعم الأميركي.
لكن الطريق طويل والتعقيدات ليست قليلة، ففي مراحل التغيير يتذكر المحللون معادلة أنطونيو غرامشي الدقيقة: "القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذه المرحلة يمكن أن تظهر كل أنواع الشرور"، وهي معادلة ليست كاملة بالنسبة إلى لبنان وسوريا، فالقديم في بيروت متجذر والجديد يكافح لئلا يبدو وكأنه ضيف على القديم، والقديم في سوريا مات والجديد ولد، ولكن الجديد يحمل أفكاراً قديمة جداً، والسؤال في سوريا والعالم العربي وأميركا وأوروبا، وسط عدم اليقين، هو إلى أي حد يستطيع الرئيس أحمد الشرع التخفف من حمولات الجهادية السلفية، ويمكّن الانتقال من انفتاح محدود لـ "هيئة تحرير الشام" إلى انفتاح كامل على التنوع السوري؟
من الصعب إلغاء العقوبات الأميركية والاعتراف الرسمي بالوضع السوري الجديد من دون هذا الانفتاح، وهذا ما تدركه تماماً الرعاية السعودية وما تطلبه أميركا والسعودية في لبنان، وفيه هو ما يطلبه اللبنانيون لأنفسهم، الإصلاحات وسحب السلاح غير الشرعي وانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها في الجنوب الذي كان محرراً قبل "حرب الإسناد" لغزة بقرار "حزب الله".
ولا ألغاز وأسرار على الطريق، فجملة واحدة مما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للرئيس جوزاف عون تكفي لفهم الترابط بين القضايا المطلوب حلها، "أريد ختم صندوق النقد الدولي"، فختم الصندوق يعني بداية الإصلاح الجدي وتأهيل لبنان للاستثمارات، ولا قيمة للإصلاح على الورق من دون سحب السلاح غير الشرعي الذي هو شرط لإعادة الإعمار، فلا أحد يعيد إعمار بلد مهدد بحروب دائمة، ولا ترسيم للحدود الجنوبية من دون سحب السلاح، أما الحدود الشرقية والشمالية بين لبنان وسوريا والتي جرى التفاهم بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري على بدء ترسيمها خلال اجتماع جدة برعاية وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، فإنها جزء من ورشة واسعة.
وليس أكبر من الورشة في لبنان سوى الورشة في سوريا، فكما تحتاج بيروت إلى ختم صندوق النقد الدولي، كذلك الأمر بالنسبة إلى دمشق، ولا ختم للصندوق من دون ختم أميركي، ولا فاعلية للدعم الأميركي من دون الرعاية السعودية التي لا تتوقف مهما يكن المسار طويلاً وصعباً ومعقداً، فالخيار أمام الإدارة الجديدة في سوريا هو، بحسب واشنطن والرياض، بناء دولة الانفتاح والتنوع لضمان وحدة سوريا ورفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار وإعادة النازحين مع الدعم الأميركي والسعودي والأوروبي، أو الاستئثار بالسلطة والعيش مع الأزمات والعجز حتى عن إدارة كل سوريا، كما عن منع الفوضى والصراعات المسلحة.
والخيار أمام الجديد وبعض القديم في لبنان هو أخذ ما سميت في إدارة الرئيس دونالد ترمب "الشراكة" مع أميركا والرعاية السعودية عبر الإصلاحات وسحب السلاح، أو اللاشراكة والبقاء في الجحيم الذي قادته إليه المافيا السياسية والمالية والميليشياوية، والمماطلة ليست أقل خطورة وسوءاً من الرفض.
ميشال فوكو استخدم تعبير"السياسة الحيوية" لتوصيف تحكم السلطة بكل مفاصل الحياة، لكن سوريا تواجه خطر السياسة الحيوية ولبنان يعاني ضعف السلطة الذي يوازي أخطار السياسة الحيوية.
أندبندنت عربية