مع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة دقيقة من تاريخها السياسي، عنوانها الأبرز: "غياب السلطة المركزية، وصعود الهويات الطائفية والمناطقية إلى الواجهة". وبينما كانت الآمال معقودة على بدء عملية انتقالية تفضي إلى بناء دولة جديدة تقوم على المواطنة والمؤسسات، سرعان ما اصطدمت تلك التطلعات بحقائق ميدانية مقلقة، أبرزها تصاعد التوترات الطائفية، واندلاع موجات عنف في عدد من المناطق ذات التكوين السكاني المتنوع.
في المرحلة التي أعقبت سقوط النظام، واجهت سوريا فراغًا في الحكم سرعان ما ملأته قوى محلية، بعضها ينتمي إلى جماعات مسلحة ذات طابع طائفي، ما أدّى إلى تفجّر خلافات كانت مكبوتة لعقود بفعل القبضة الأمنية للنظام. وبدلًا من أن تكون لحظة تأسيسية لمرحلة جديدة، تحولت بعض المناطق إلى ساحات لتصفية حسابات مذهبية وقومية، خصوصًا في المناطق التي يختلط فيها العرب السنة بالأقليات مثل العلويين، الدروز، والمسيحيين، فضلًا عن التوتر المستمر بين العرب والأكراد.
الإدارة الجديدة
الإدارة المؤقتة التي شُكّلت بدعم من أطراف داخلية وخارجية، حاولت احتواء الموقف عبر سلسلة خطوات، منها إرسال رسائل طمأنة إلى الأقليات، والدعوة إلى حوار وطني جامع، وبدء مفاوضات لدمج بعض الفصائل المسلحة ضمن أجهزة أمنية وطنية جديدة. كما تم إطلاق خطط أولية لإعادة هيكلة الجيش والشرطة بما يعكس تنوع المجتمع السوري ويعزز الثقة بالمؤسسات.
لكن هذه الجهود، ورغم رمزيتها، لم تكن كافية لطمأنة الشارع، خصوصًا في المناطق التي شهدت أعمال عنف طائفي دامي، ما أظهر حجم التحديات البنيوية التي تواجه أي سلطة تحاول تثبيت الاستقرار في بلد أنهكته الحرب والانقسامات.
التوتر بين المكونات الطائفية والقومية تفجّر في أكثر من نقطة تماس. في الشمال الشرقي، توترت العلاقات بين الفصائل العربية والأكراد، وسط مخاوف من مساعٍ انفصالية تهدّد وحدة البلاد. في الجنوب، خصوصًا في السويداء، بدأ أبناء الطائفة الدرزية يعبّرون عن قلق متزايد من التهميش السياسي والتدخلات الخارجية. أما في الساحل، فقد عبّر العديد من أبناء الطائفة العلوية عن شعورهم بأنهم باتوا عرضة للانتقام أو الإقصاء، رغم مشاركتهم المتفاوتة في النظام السابق.
التدخلات الخارجية
زاد من تعقيد المشهد تدخل أطراف إقليمية ودولية تسعى إلى حماية مصالحها من خلال دعم جماعات محلية أو الدفع نحو تشكيل كيانات ذات طابع طائفي أو إثني. هذه التدخلات، سواء من إيران، تركيا، أو بعض القوى الغربية، ساهمت في تعزيز الاصطفافات، وأضعفت فرص بناء مشروع وطني جامع.
في ظل هذه التحديات، تبدو المهمة أمام الإدارة الجديدة شبه مستحيلة دون توافق داخلي واسع، ووجود مشروع سياسي شامل يعيد الاعتبار لمفهوم "المواطنة" على حساب الولاءات الطائفية. فاستقرار سوريا لن يتحقق عبر القوة أو التسويات المرحلية، بل من خلال إعادة بناء العقد الاجتماعي بين السوريين جميعًا، على قاعدة العدالة، والمساواة، والمحاسبة.
إن الاقتتال الطائفي اليوم لا يهدد فقط الأمن اليومي، بل يعصف بأسس الدولة المستقبلية. فإما أن تتحوّل هذه المرحلة إلى فرصة تاريخية لتجاوز الانقسام، أو أن تنزلق البلاد إلى دوامة عنف مفتوح قد تستمر لسنوات.