كان هذا عنوانا لمقال كتبته شخصياً منذ أكثر من أربعين سنة، وجاء المنطلق من الفلسفة الدبلوماسية، التي طوقت سياسة الكويت الخارجية، والتي تحولت الى نموذج فريد، يتحدى المفهوم الأمني، الذي اعتادت عليه شعوب العالم في تأمين سلامتها وترسيخ استقرارها، عبر آليات الردع والمواجهة، ببناء قوة دفاعية تحافظ على الوطن، وتوفّر له السكينة والاطمئنان، جاء منبع ذلك المقال من الحالة الكويتية الفريدة، التي تولدت من التحاق الكويت كعضو في الجامعة العربية، وخروجها من التزام الحلفاء الدفاع عنها، الى توفير الأمن والسلامة لشعبها، بالتعاون مع الجامعة العربية والدول الاعضاء فيها، التي رحبت بانضمامها كعضو فعّال وملتزم بالقرارات.
جاء خروج الحلفاء من الكويت، ومن الالتزام بالدفاع عن أمنها، بناء على طلب الكويت بالانضمام الى الجامعة العربية، التي اشترطت أن تأتي الكويت الى الجامعة من دون أية تحالفات مع الدول الاستعمارية الغربية، وأبرزها بريطانيا والولايات المتحدة، حيث واجهت الكويت شروطاً غير مسبوقة في مسارها نحو الجامعة العربية وضعتها مصر، وموجزها لا عضوية للكويت، لا في الجامعة العربية، ولا في الأمم المتحدة، طالما استمرت في تحالفها مع الدول الاستعمارية، جاءت «الشروط» لتضع القيادة الكويتية في موقع عليها أن تزن خطواتها، التي تؤدي الى الحفاظ على سيادة الدولة وسلامة استقلالها، كما عليها أن تدقق في خطواتها، لكي تبقي محصنة من التهديدات العراقية، التي أطلقها زعيم العراق.
اعتاد الشيخ عبدالله السالم أن يتشاور مع أبناء الكويت في القضايا، التي تمس هوية وسلامة الوطن، فلم يتردد في فتح التشاور حول التوجهات التي يتقبلها أبناء الشعب، كما أخذ في حساباته مواقف الدول العربية المؤيدة والمترددة، بالإضافة الى تواصله مع وفد الكويت المتواجد في القاهرة لعضوية الجامعة العربية.
كان الموقف صعباً ومعقداً، فالأولوية لسلامة الوطن، الذي يتحقق عبر التوافق العربي على انضمام الكويت للجامعة العربية، فالبديل عن ذلك بقاء الكويت في عزلة تنكشف فيها أمام التآمرات العراقية، وتتحول الى هدف للمضايقات العربية والإقليمية.
ومع تقبّل الشيخ عبدالله السالم الصيغة، التي رافقت عضوية الكويت في الجامعة العربية، بما فيها تواجد القوة العربية المشكلة من بعض الدول العربية، التحقت الكويت بالعضوية، مدركة الفوائد التي تجنيها من تواجدها في الجامعة العربية، وعلى وعي تام بالمتاعب، التي تتولد من غياب الردع المؤثر والمؤتمن، وفوق ذلك تدرك الكويت متعة الايجابيات من تواجدها في الجامعة العربية، ومنفتحة على أثقال المتاعب التي ستتعرض لها.
في يناير 1963 أصبح الشيخ صباح الأحمد وزيراً للخارجية، وفي يناير 1964 كان نصيبي أن أكون مديراً لمكتبه من 1964 الى 1971.
كان الشيخ صباح يملك قناعة صلبة بأن الكويت تملك القدرة على تجاوز غياب الردع العسكري المؤثر، من خلال دورها داخل الجامعة العربية، وبالطبع لم يكن يفكر بدور قيادي يفك العقد، التي تعطّل مسار العمل العربي المشترك، وإنما تحول الى أنجح مسؤول في تجميل نواقص الدبلوماسية الكويتية، وغطّى غياب الردع عن طريق تكثيف التواجد الكويتي في مسار العلاقات بين الدول العربية. كانت أدواته وأسلحته صفاء النوايا وصدق التطوع، مع قدرة على استحضار مستلزمات التوسطات، التي تبناها منذ توليه المسؤولية، واستمرت هذه الجهود التي رافقته وزيراً، وظلت معه كرئيس للوزراء، وواصلت معه أميراً. كانت الأعباء ثقيلة، أكثرها حساسية مساعيه لتحقيق تقارب بين المملكة العربية السعودية ومصر الناصرية، وكان أكثرها ازعاجاً ترؤسه للجنة العربية لتحقيق توافق لبناني داخلي، وأروحها تجاوباً كانت بين اليمن الجنوبي وسلطنة عمان. حاول كثيراً في تأمين توافق عربي يدعم سياسة العراق في حربه مع إيران، وغير ذلك كان حرصه على تأمين التوافق الجماعي العربي حول منظمة التحرير والملف الفلسطيني، الذي كان يرافقه دائماً في تنقلاته في العواصم الكبرى.
أدار الشيخ صباح الأحمد الدبلوماسية الكويتية من 1963 الى يوم الغزو، وشيدها لوحة صافية تملك المصداقية، سخية في مساهمتها، إنسانية في دوافعها، نقية في نواياها، مرتفعة في أهدافها، وجميلة في أطروحاتها، وسعى بقوة لتجاوز غياب القوة الرادعة لحماية الكويت، مستحضراً تجاوب جميع الدول العربية الإيجابي في كل ما يهم الكويت، وموفراً للكويت البديل العربي الحريص على أمنها وسلامتها، ومقتنعاً بصدق العرب في مودتهم للكويت، وتعاونهم مع جهوده المتواصلة نحو التوافق العربي. استحضر الشيخ صباح الأحمد خلطة دبلوماسية تجميلية لواقع الكويت، فلم يشغله الانكشاف الأمني الكويتي، الذي غطاه بالعمل الدبلوماسي الإنساني المتواصل، ليس لمصلحة المحيط العربي، وإنما كان متواجداً في آفاق مجموعة الدول النامية، التي تواصل معها في إطار عدم الانحياز والتلاقي الآسيوي واجتماعات الأمم المتحدة.
كان الشيخ صباح الأحمد على قناعة قوية بأن الانفتاح السياسي وتواصل الترابط الدبوماسي مع جميع الشعوب، يوفران فاعلية دبلوماسية سياسية، هي التي تناسب الكويت وتطوق سلامتها، ولم يتصوّر هول الخيانة التي رتبها صدام حسين وتابعوه، ليحتل الكويت ويهدم مفاهيم العيش بالدبلوماسية، كان صامتاً على مقعده، وكنت خلفه في سيارة العبور الى الحدود السعودية، ظل مصدوماً من خيانة من كان يدافع عن صدق أقوالهم، ومن كارثة الغزو تم فك الارتباط بين الكويت وسياسة العيش بالدبلوماسية، والسبب أن القوة وحدها القادرة على تطويق الطموح الجغرافي، وانتقلت الكويت الى متعة ورفقة الردع المستقر.
القبس