امتحان الدولة: السلطة القوية

الرئيس فؤاد شهاب بدأ عهده في أواخر الخمسينات بمهمة تأسيسية: إكمال"استقلال الدولة" ببناء "دولة الاستقلال". كانت وراءه مباشرة أحداث 1958 والصدام بين حلف بغداد والموجة الناصرية بعد دولة سمّيت "مزرعة". وكان أمامه وقت مشوب بالخلافات السياسية والعزم على بناء أسس الدولة وشدّ براغي السلطة. وهو أقام الأسس:

مصرف مركزي، مجلس خدمة مدنية، إصلاحات بعثة "إرفد"، ضمان اجتماعي، ضبط أمني، وتفاهم مع الزعيم العربي جمال عبد الناصر على السياسة الخارجية واستقلالية السياسة الداخلية. لكنّ أحداثاً أقوى من لبنان وإرادته طغت على ما بناه شهاب: من اتفاق القاهرة عام 1969 وسيطرة الفصائل الفلسطينية المسلّحة تحت عنوان العمل الفدائي ضد إسرائيل إلى الوجود العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي والشراكة السورية - الإيرانية في الوصاية على البلد من خلال ما سمّي فائض القوة عند "حزب اللّه"، شيء من مفاعيل حرب لبنان الطويلة.

والخلاصة هي خسارة "دولة الاستقلال" بعد خسارة "استقلال الدولة". وكان من الوهم، بصرف النظر عن العهود المتتابعة وشعاراتها ونيات المسؤولين فيها، سماح الوصاية بإعادة بناء الدولة. لا بل كان من الصعب حتى قيام سلطة قوية تمارس الحدّ الأدنى من السيادة. وليس في السرّ، يلعب الطرف المهيمن ورقة خطيرة جداً هي العمل على إقناع طائفة قوية بالخوف من الدولة والتخويف بها والاطمئنان فقط إلى سلاح "حزب اللّه" لحمايتها وضمان دورها وموقعها. وقمة خداع النفس والآخرين هي أن تتقدّم أحزاب دينية وأحزاب طائفية الدعوات إلى التخلّص من النظام الطائفي. فالكلّ يعرف أن الهدف ليس إقامة دولة مدنية ومواطنة فعلية هي حلم اللاطائفيين الوطنيين بل تركيز هيمنة الأكثرية العدديّة على التعددية.

اليوم جاء عهد جديد التزم في خطاب القسم بناء الدولة وحقها في "احتكار السلاح". وجاءت حكومة جديدة تؤكّد يومياً أن بيانها الوزاري عن الدولة ونهاية السلاح خارج الشرعية ليس حبراً على ورق. وتحقيق ذلك هو حجر الأساس في بناء الدولة الذي يحتاج إلى ورشة عمل واسعة وجهود قادرة على تجاوز معوقات كثيرة لا تزال في صلب التركيبة السياسية المتحكّمة بمفاصل الدولة العتيدة. فنحن نتصرّف أحياناً كأن الدولة واحة جاهزة تنتظرنا في مكان ما، وما علينا سوى قطع مسافة الطريق إليها. والبعض يقول: عندما تصبح الدولة قوية نتخلى لها عن السلاح، ثم يعمل كلّ ما يستطيع للحؤول دون بناء الدولة الذي هو عملية شغل يومي. حتى الدول القوية المبنية من عقود تحتاج إلى تحديث وتطوير.

وبكلام آخر، فإن بداية العمل على بناء الدولة هي الانتقال من السلطة الرخوة إلى السلطة القوية. فالسلطة الرخوة كلّفت لبنان الكثير، بحيث صار أرض لا أحد. أيّ حامل سلاح ولو كان جهادياً سلفياً أو مع "القاعدة" أو "داعش" يجد له مكاناً إما في بعض المناطق وإما في المخيّمات. وسحب هذا السلاح مع إخراج المسلّحين الخطرين أولوية، ثم يأتي دور السلاح الفلسطيني في أيدي فصائل منظمة التحرير أو خارجها. وإذا كان سحب سلاح "حزب اللّه" يحتاج إلى وقت، بصرف النظر عن التمسّك به والتهديد بتفجير البلد في حال الإقدام على سحبه، فإن هناك بداية أساسية لا بدّ منها: استعادة قرار الحرب والسلم. فلا تنظيم مهما تكن شعاراته وارتباطاته يملك أي حق في استخدام السلاح عبر الحدود أو في الداخل. فالحق محصور بالدولة، ولو كان سلاحها هو الدبلوماسية والعلاقات مع أصدقاء لبنان.

واللعبة معقّدة لكنها ليست بلا حل. وإذا كان الكل يردّد في انتظار الحوار المثل القائل أن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن الفيلسوف سبينوزا يرى العكس، وهو "أن الحقيقة المطلقة تكمن في التفاصيل".

نداء الوطن

يقرأون الآن