المسارات الخاطئة.. طغيان الوسائل على الأهداف

لا بد أن يلاحظ المتابعون للسياسات والتطورات السياسية في إسرائيل/ فلسطين إلى أي مدى تنفصل التكتيكات المتبعة عن الأهداف المنشودة، وكيف أن هوس بعض القادة والحركات بمساراتهم الخاطئة يُشتتهم ويقودهم - هم وأتباعهم - إلى الهاوية بشكل خطير.

مع التركيز بشكل خاص على تكتيكات وسلوكيات «حماس» وإسرائيل، تتبادر إلى الذهن قصص من تقاليد دينية مختلفة. ورغم أنها ليست جزءاً من النصوص المقدسة، إلا أن الدروس العملية التي تحملها تستحق التأمل. أولاً، هناك قصة بوذية قديمة جميلة تقول: في أحد الأيام، اقتربت مجموعة من التلاميذ من بوذا وطلبوا منه أن يرشدهم إلى طريق القمر. فصمت بوذا وأشار إلى القمر بإصبعه. وبعد سنوات، كان التلاميذ لا يزالون يدرسون إصبع بوذا. الدرس البسيط هنا: ألا ننشغل بما يُفترض أن يُساعدنا في الوصول إلى هدفنا، أو أن نشتت انتباهنا به لدرجة أن نغفل عن الهدف نفسه، إنها مسألة ربط الوسائل بالغايات، وعدم الخلط بينهما. على سبيل المثال، في البداية أعلنت «حماس» أن هدفها هو إنهاء الاحتلال، بينما أعلنت إسرائيل أن هدفها هو جلب السلام والأمن لشعبها.

وبعد عقود وسقوط العديد من الأرواح، أصبحت تكتيكات «حماس» وحروب إسرائيل أهدافا بحد ذاتها، ونُسيت الأهداف الأصلية - دون أي اهتمام بما إذا كانت تصرفات «حماس» أو إسرائيل تحقق أي شيء سوى الإبعاد عن تحقيق الأهداف المرجوة. وفي السياق نفسه، هناك هذه القصة القديمة من حي الحسيدية: «الحسيدية هو حي يهودي» كان هناك حاخام أنهى دروسه في إحدى البلدات، وكان في طريقه إلى بلدة أخرى. ولكنه أدرك أنه لا يعرف الطريق. فصادف صبياً صغيراً وسأله كيف يصل إلى وجهته. أجاب الصبي: «هناك طريق قصير يمر عبر الغابة، والبلدة على الجانب الآخر. أو هناك الطريق الطويل الذي يلتف حول الغابة، ولكن...»، وبما أن الوقت كان متأخرا، قاطع الحاخام الصبي قبل أن يكمل كلامه واندفع داخل الغابة. وحين حلّ الليل، ضل طريقه تماما. وفي الصباح، خرج من الغابة ليجد نفسه في المكان نفسه الذي بدأ منه بالأمس، والصبي نفسه يلعب في الموضع نفسه. فصرخ الحاخام: «إرشاداتك كانت عديمة الفائدة!»، ردّ الصبي: «لم تتركني أُكمل كلامي. كنت على وشك أن أخبرك أن الطريق عبر الغابة هو الطريق الأقصر، لكن بما أن الغابة كثيفة وكان الظلام يقترب، فقد خشيت أن تضل طريقك، وبالتالي يصبح الطريق الطويل. أما الطريق الملتف حول الغابة، فرغم أنه أطول، إلا أنه في الواقع الأقصر». إن مجرد معرفة وجهتك أو ما تريد تحقيقه لا يكفي دائماً. فالتكتيكات التي تستخدمها أو المسار الذي تسلكه له أهمية بالغة. وكما أن التركيز على إصبع الإشارة لن يوصلك إلى القمر، فإن تجاهل واقعية الخطوات التي يجب اتخاذها للوصول إلى الهدف هو أيضاً خطأ كبير.

لا بد أن يكون هناك رابط بين الهدف والمسار-فلا يوجد طرق مختصر. عندما ينتهي بك الأمر باستبدال أعداد القتلى والمباني المدمرة والغضب والخوف بالأهداف الأصلية لإنهاء الاحتلال أو تحقيق السلام والأمن لشعبك، فإنك تصبح كالتائه في الغابة وتكون بحاجة إلى البدء من جديد. وأخيراً، إليكم هذه القصة من التقاليد الهندوسية: في أحد الأيام، صادف أربعة رجال عميان فيلاً، وسألوا: «ما هذا؟»، فقال الأول وهو يمسك بذيل الفيل: «أعتقد أنه حبل»، وقال الثاني وهو يحيط ساق الفيل بذراعيه: «لا، أعتقد أنه شجرة»، أما الثالث، الذي لمس جانب الفيل الضخم، فقال: «لا، إنه بالتأكيد صخرة ناعمة وكبيرة». وقال الرابع، وهو يمرر يده على ناب الفيل: «ليس أيّاً من ذلك، إنه يبدو كأنه سلاح طويل منحنٍ». والإجابة بالطبع أن الفيل ليس أيّاً من هذه الأشياء وحدها. بل هو جميعها، إن جاز التعبير. وتوضح هذه القصة مقولة قديمة تحذر من «رؤية الأشجار وتجاهل الغابة». عند النظر إلى واقع معقد، من المهم ألا ننشغل بجوانب معينة من الوضع ونتجاهل مجمله.

وإسرائيل مذنبة بشكل خاص في هذا الأمر. فمنذ تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين، كانت رؤيتهم للواقع ضيقة. اعتبروا النكبة وإقامة الدولة كانتصارات، لكنهم تجاهلوا العداء الذي خلقوه في المقابل. يرون فقط ما يريدون رؤيته.

وبعد أن دمروا غزة، يوجهون أنظارهم الآن إلى عمليات الإخلاء القسري والاستيلاء المتزايد على الأراضي في الضفة الغربية. لكن يغفلون طوال الوقت أن المشكلة ليست مجرد ذيل أو ساق الفيل. وهكذا، وبينما يسجلون «انتصارات» صغيرة، فإن الغضب الذي يولدونه يتفاقم، مع عواقب مميتة. وفي كل مرحلة، كانت الوسائل التي استخدموها تؤدي إلى مقتل الآلاف - من شعبهم ومن الضحايا الفلسطينيين.

ولم يؤدِّ تراكم قصر النظر القاتل إلا إلى مزيد من الغضب الفلسطيني والعربي. كما أدى إلى مزيد من انعدام الأمن وتشويه ثقافتهم السياسية بشكل قبيح. والعبرة هنا هي أن التركيز فقط على الذيل أو الساق قد يؤدي بك إلى أن تُدهس أو تُطعن.الدروس المستفادة من هذه القصص الثلاث واضحة: إن التكتيكات ليست أهدافاً بحد ذاتها، بل يجب أن تؤدي إلى الهدف المنشود. وعندما لا يحدث ذلك، يصبح التغيير ضرورياً لتجنب الكارثة.

الاتحاد

يقرأون الآن