الوعي بالجغرافيا والتاريخ

معرفة التاريخ شىء، والوعى به شىء آخر، المعرفة متاحة للجميع، لكن الوعى واجب لدى البعض، خاصةً صناع القرار والمتنفذين.

فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، اندفع محمد على نحو بلاد الشام وسيطر عليها، وبات إبراهيم باشا قائد الجيش المصرى على أبواب الأستانة، عاصمة الدولة العلية.

بدت الأمور هينة أمام باشا مصر، علاقته طيبة مع فرنسا، له كذلك علاقات مع روسيا القيصرية، تصوّر أنهما قد يدعمانه إذا تحرّشت به بريطانيا دفاعًا عن «رجل أوروبا المريض»، الدولة العثمانية، لكنهم جميعًا تحالفوا ضده لدفعه بعيدًا عن بلاد الشام كلها والعودة إلى حدود مصر.

فرنسا تحالفت مع بريطانيا والدولة العثمانية ضده، روسيا القيصرية كانت لديها صراع تاريخى مع العثمانيين، لكن الروس قرروا فى لحظة الحسم أنهم يفضلون الجار الضعيف المتهافت عن أن يكون جارهم– محمد على– قويًا وطموحًا.

ببساطة، لم يكن النظام الدولى يسمح لمحمد على أن تكون له السيطرة على «شرق المتوسط»، ولا حتى إن يكون متواجدًا هناك، حيث يمكنه أن يتحكم فى المدخل البحرى لأوروبا بكل ما يعنيه ذلك، فضلًا عن الاقتراب البرى من روسيا.

فى النهاية، أجبر «باشا مصر» على الانسحاب من الشام كله، لم يكن الانسحاب منظمًا، لذا وقعت فوضى شديدة وحدثت مآس للقوات المنسحبة.

والمشكلة أننا نعلق بعض التجارب التاريخية فى رقبة أبطالها ونتناسى المغزى العميق لها، وخاصة إذا كنا لا نحب هؤلاء الأبطال أو نرفضهم سياسيًا، إذ نتصور فشلهم جزاء مستحقًا وليس درسًا ولا عظة لنا، لذا يمكن أن يتكرر معنا نفس السيناريو مع اختلاف التفاصيل والملابسات.

فى مطلع العام 1947، بدا أن ما يحدث فى فلسطين من صراع بين أصحاب الأرض والمستوطنين اليهود سوف يُناقش فى الأمم المتحدة، وأن قرارًا بتقسيم فلسطين سوف يصدر، كانت فكرة التقسيم مطروحة منذ سنة 1936.

كان عام 1947، هو عام الأمم المتحدة فى التقسيم، إذ صدر قرار بتقسيم الهند إلى دولتين هما الهند وباكستان، كذلك تقسيم كوريا إلى شمالية وجنوبية، ثم تقسيم فلسطين.

قبل صدور قرار تقسيم فلسطين بشهور، تلقى الملك فاروق نصيحة– تحذير– من صديقه أحمد زوغو، ملك ألبانيا المخلوع، وكان مقيمًا فى الإسكندرية، النصيحة هى أن لا يقف ضد قرار التقسيم، وأن لا يُحرك جيشه نحو فلسطين، وكان مما قاله له إن إسرائيل مشروع تقوم عليه بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولن يسمح هؤلاء لك بتدمير مشروعهم.

نسى فاروق درس جده محمد على، وحرك الجيش المصرى، وتحركت جيوش عربية أخرى، وكان ما كان، تدخل الغرب بقوة حيث منع السلاح عن الأطراف المتحاربة، وسمح بفتح المخازن فى «تشيكوسلوفاكيا» أمام إسرائيل، والمبرر أن الأخيرة تتبع المعسكر الاشتراكى.

هذا فضلًا عن أن إسرائيل كانت مستعدة مسبقًا بالذخيرة والأسلحة والمقاتلين، وهذا ما تجاهلته الحكومات العربية، رغم تنبيه الدبلوماسيين العرب فى فلسطين إلى تلك الحقيقة.

فى النهاية، لم يكن النظام الدولى (غربًا وشرقًا) يسمح بانتصار عربى وتمركز جيش عربى داخل هذه المنطقة، حتى لو كان تواجدًا رمزيًا، لم يستوعب الجميع تجربة محمد على هناك.

ليس معنى ذلك أنه كان على المسؤولين العرب التخلى عن الشعب الفلسطينى، بل المساندة بطرق أو أدوات أخرى، ربما على غرار تجربة مصر/ عبد الناصر فى دعم ثورة الجزائر.

بعد خروج مصر منتصرة من العدوان الثلاثى، وفى نوبة حماس، تقدمت فكرة الوحدة بين مصر وسوريا. لأسباب كثيرة، كان يجب علينا أن نتريث، بعضها يتعلق بالداخل السورى، فقد كان حضور قادة الجيش السورى فى طائرة إلى القاهرة طلبًا للوحدة، بينما رئيس الجمهورية «شكرى القوتلى» فى قصره بدمشق، أقرب إلى انقلاب ناعم.

كان يجب رفض التعامل معه، ثم إن هؤلاء الذين قدموا من مدرسة حسنى الزعيم وأديب الشيشكلى و... و... و...، كان ينبغى تجنبهم قدر الإمكان، وفوق ذلك، كان يجب تذكر تجربة محمد على (باشا).

بعض المنظرين وقتها تحدثوا عن «الحتمية التاريخية» التى تفرض الوحدة، لكن أحدًا لم يذكر الحتمية الجغرافية وقواعد النظام الدولى التى تلزمنا بالتريث والرفض، كان يمكن الاكتفاء بتعاون بين الدولتين.

فى النهاية، سريعًا، استنفدت الوحدة أغراضها، ودبَّت روح حسنى الزعيم، وحدث الانفصال.

وحتى لا يتصور البعض أن الأمر يتعلق بالمصريين أو العرب فقط، أمامنا الآن النموذج الإيرانى، ذهبوا إلى منطقة الشام، ونُصح بشار الأسد بإبعادهم، ماطل ورفض، فتم تجهيز البديل، وسُحب هو من دمشق بعملية ناعمة جدًا، حيث يتم تأمينه وطرد الإيرانيون من هناك.

وبدلًا من أن نستوعب الدرس ونعيه جيدًا (الانفصال)، بل نحمد الله أنه مر دون كارثة كبرى، رحنا نكرر المسألة بصورةٍ أقسى وأعنف فى اليمن، وتلك مأساة أخرى.

تجربة أخرى فى افتقاد الوعى بالتاريخ وتجاهل تام لضرورات الجغرافيا، فدفعنا أثمانًا غالية، دماء طاهرة من خيرة أبناء مصر، وأموالا طائلة، ومساسا بالهيبة الوطنية.

الأخطر من ذلك كله أنها كانت خطوات نحو الخامس من يونيو 1967.

فى سنوات السبعينيات، تم تعليق كل شىء فى رقبة الرئيس عبد الناصر وزعامته، والحق أنه فى كل ما سبق، خاصة التدخل فى اليمن، لم يكن هو الأكثر حماسًا، كان رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة أشد اندفاعًا، خاصة أنور السادات، المحاضر الرسمية للاجتماعات وقتها والتصريحات المعلنة فيها الكثير.

شخصنة القضايا الكبرى يفقدنا جانبًا من استيعاب الثوابت فيها، التى تتجاوز الأشخاص مهما كان قدر كل منهم.

رحمَ الله الجميع.

المصري اليوم

يقرأون الآن