أوائل مايو/ أيار الماضي، رحل عن عالمنا المفكر الأميركي الكبير البروفيسور جوزيف ناي، الكاتب والدبلوماسي، ونائب وزير الدفاع الأميركي، والمستشار الطلعة للعديد من كبار المسؤولين الأميركيين خلال أكثر من أربعة عقودٍ خَلَتْ.
ولعلها من مصادفات القدر أن يرحل ناي، في توقيت تتوارى فيه قوة أميركا الناعمة، وتتجلى الخشنة منها، عبرالكثير من القرارات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
طويلاً كتب وحاضَرَ ناي عن أهمية القوة الناعمة، ولعل الولايات المتحدة الأميركية نفسها قد اكتسبت الكثير من حضورها وأَلَقِها حول العالم من خلال فكرتَيْن رئيسيّتَيْن، القدر الواضح والمدينة فوق جبل، والأولى تعني أنّها ذات مهمة رسائلية عالمية، تحمل الديمقراطية للعالم، وتسعى لتكريس وصيانة حقوق الإنسان، فيما الثانية تفيد بأنها نبراس للأمم الشعوب، في مطالباتها باستقلالها، والسيادة على أراضيها، والحفاظ على كرامة مواطنيها.
والشاهد أن رحيل ناي في هذا التوقيت الذي تعيش فيه البشرية حالة من السيولة الجيو إستراتيجية من جهة، والخوف من الصدام المسلَّح، ما بعد التقليديّ، من جهة تالية، يفتح الباب واسعًا للتساؤل: "هل حقًّا انتهى زمن القوة الناعمة، وباتت القوة المسلحة الخشنة، هي الأداة الوحيدة التي يلجأ إليها أصحاب السلطة في شرق البسيطة وغربها؟
الثابت أنه عندما كتب ناي عن القوة الناعمة لأول مرة في عام 1990، كان يسعى إلى التغلب على نقص في كيفية تفكير المحللين بشأن القوة بشكل عام. لكن هذا المفهوم اكتسب تدريجيًّا صدى من نوعٍ سياسيٍّ.
ولعل الذين لهم دالة على الأبحاث السياسية المُعمَّقة، يدركون أن الفكر الأساسيّ الذي يقوم عليه هذا المفهوم ليس جديدًا من بعض الجوانب، فمن الممكن تتبع مفاهيم مماثلة عند فلاسفة قدماء مثل الصيني 571 قبل الميلاد.
هل حديث القوة الناعمة الذي كرس له ناي الكثير من الوقت والجهد ينسحب على الولايات المتحدة الأميركية فحسب، أم أنه كذلك ينطبق على الكثير من دول العالم، وربما المؤسسات الدوليّة؟
المؤكَّد أن منطق القوة الناعمة لا يتعلق بالسلوك الدولي أو الولايات المتحدة الأميركية فحسب، إذ تمتلك العديد من الدول والمنظمات الصغيرة أيضًا القدرة على الجذب، وفي الأنظمة الديمقراطية، على الأقلّ، تعتبر القوة الناعمة مكونًا أساسيًّا للقيادة.
يمكن القطع بأن كتابات جوزيف ناي كانت الخميرة الصغيرة، التي وضعت في قلب مسارات ومساقات العلاقات الدولية في العقود الثلاثة الأخيرة، وبات المفهوم مرتبطًا بالعلاقات الدولية بشكل عام.
خُذْ إليك على سبيل المثال حال ومآل الاتحاد الأوروبي في هيئته الحالية، فقد استخدم القادة الأوروبيون هذا المصطلح على نحو متزايد.
ولعله من المثير أن الشرق الآسيوي بدروه، المشهور بحكمته التاريخية، من عند صن تزو وكونفوشيوس، لم يوفر التعاطي مع أطروحة القوة الناعمة لجوزيف ناي،حتى وإن لم يعلنوا عن ذلك بشكل رسميّ.
منذ العام 2007، عندما أعلن الرئيس الصيني هو جين تاو أن الصين يجب أن تطور قوتها الناعمة، استثمرت الحكومة مليارات الدولارات في هذا المسعى.
يحاجج الكثيرون من المراقبين المحققين والمدققين للشأن الصيني، بأن كبريات المشروعات الصينية، لا سيما مشروع مثل "الطريق والحزام"، إنما يهدف قبل تحقيق الأرباح المالية، على أهميتها، إلى ترسيخ جذور القوة الناعمة الصينية في أوروبا وآسيا وأفريقيا على حدٍّسواء.
واليوم يتمثل التحدي الذي يواجه الصين في تنفيذ إستراتيجية فعالة تقوم على القوة الذكية، والتي هي حاصل جمع الناعمة والخشنة معًا، وساعتها سوف يكون الطريق إلى القطبية الدولية قريبًا جدًّا للصينيّين مرة جديدة بعد أن حققوا مملكة "الملكوت المركزي"، وهو اسم الصين قبل بضعة آلاف من السنين الغابرة.
في عمق كتابات جوزيف ناي، يجد المرء تفكيكًا مهمًّا لإشكالية القوة الناعمة في علاقتها مع الزمن، ذلك أن القوة الخشنة تبدو كالسيف البَتَّار، يقطع بمجرد أن يلامس أي سطح يقابله، فيما القوة الناعمة تحتاج في واقع الأمر إلى وقت طويل حتى يمكنها أن تضحي فاعلةًوناجزة، غير أن تجاهلها أو إهمالها خطأ إستراتيجي وتحليلي جسيم.
قَدَّم لنا ناي عبر مؤلفاته المتعددة، وفي القلب منهاThe Future of Power أو مستقبل القوة الصادر عام 2010 بعض الأمثلة عن المفارقات التاريخية لممالك وإمبراطوريات، كان طريقها إلى العظمة، القوة الناعمة، وليس الخشنة.
على سبيل المثال، لم تكن القوة الإمبراطورية الرومانية تعتمد على جحافلها العسكرية فحسب، بل كانت تستند أيضًا إلى جاذبية الثقافة الرومانية والقانون الرومانيّ.
هل عرف الأميركيون كيفية التماهي مع هذا النموذج الضارب جذوره في التاريخ؟
المؤكد أن الوجود الأميركي في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، كما وصفه محلل نرويجي ذات مرة كان "إمبراطور بالدعوة" ، ذلك أن سور برلين لم يسقط من القذائف المدفعية، بل أزالته مطارق وجرافات بأيدي أشخاص لمستهم القوة الناعمة الغربية.
يكاد الذين يقرأون صفحات كتب جيمس ناي، أن يقطعوا بأن الرجل استلهم بالفعل الكثير من كتابات الأميركي الشهير"ديل كارنيجي"، أحد اساطين الفكر التنموي المبكر، لا سيما عبر مؤلفه الشهير "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس"، وبخاصة في ظلِّ القول بأن السياسة ميادين مختلفة، ليس كلها لضرب النار، وإنما لتبادل الأفكار، والتأثر بها، واللعب أحيانًا على تناقضاتها.
يخبرنا ناي أن القادة السياسيين الأذكياء أدركوا منذ فترة طويلة أن القيم من الممكن أن تحقق القوة، لاسيما إذا تمكنت من جعلك تريد ما أريد، وساعتها لن يضطر أحد إلى إجبارك على فعل ما لا تريد أن تفعل. وإذا كان بلد ما يمثل قيما يجدها آخرون جذابة، فسوف يكون بوسعه أن يقتصد في استخدام العصا .
هل من تطبيقات عملية لرؤية ناي على الساحة الجغرافية؟
تاريخيًّا يمكن اللجوء إلى نموذجين، العالم العربي والشرق الأوسط في أوائل خمسينات القرن المنصرم، حيث كانت الولايات المتحدة الأميركية نموذجًا براقًا للتحرر، ورأت فيها شعوب المنطقة قوة تدفع للخلاص من ربقة الاحتلال الأوروبي البريطاني والفرنسي التاريخي، لا سيما أن واشنطن، وحتى ذلك الوقت، لم تكن قوة احتلال لأي أراضي عربية، وقد قدر لأميركا من خلال مجلات مثل الحياة، والمختار، أن تنقل افكارًا عن عالم جديد، أرضًا وسماءً أميركيتين مغايرتَيْن لأوربا الإمبريالية القديمة.
أمّا النموذج الثاني، فموصول بأوروبا الشرقية، والتي لم تطلق أميركا رصاصة واحدة على جيوش السوفيت فيها، بل غازلتهم عبر إذاعة أوروبا الحُرة، وبزجاجة الكوكاكولا، الجذابة للأعين، وبسينما هوليوود فكان ما كان في أواخر العام 1989، حيث كتب التاريخ نهاية الشيوعية السوفيتية.
يتساءل المرء: لماذا تتراجع القوة الناعمة في حاضرات ايامنا، ويعود العالم من جديد إلى سباق التسلح النوويّ؟
ربما لأن المثلث الرئيس الذي تقوم عليه القوة الناعمة، قد بهت وخفت ضوء، مثلث الثقافة، والقيم السياسية، والسياسات.
هل يعطي رحيل رجل جليل القدر مثل ناي، عالمنا فرصة لمراجعة أوراق القوة الناعمة مرة أخرى، قبل القارعة التي تبدو وكأنها على الأبواب؟
العربية