قبل أسبوع، زرت أمريكا لحضور حفل تَخرُج حفيدى وحفيدتى من جامعتى «بوسطن»، و«تافتس» بولاية ماساتشوستس. خلال حديث مع أحد الأساتذة الأكاديميين أبلغنى أن 60٪ من خريجى الجامعتين من الصين وكوريا الجنوبية وبقية دول جنوب شرق آسيا. أذهلنى العدد الكبير للمبتعثين الآسيويين خاصة الصينيين. لقد كانت الصين قبل 50 عاما منغلقة تماما على نفسها. تتعامل بشك وريبة مع كل ما له علاقة بالغرب. ثم جاء الزعيم الصينى دينج شياو بينج خلفا لماو تسى تونج، وبدأ عملية تغيير كبرى أقرب إلى ثورة سلمية هادئة.
لم يلتفت بينج للماضى ويتعارك معه. ترك رموز الماضى كما هى. ماو ظلّت صورته على عملة البلاد «اليوان»، وتماثيله وصوره العملاقة فى الميادين خاصة «تيان آن مين» الميدان الأشهر فى بكين. كان هدفه التوجه للمستقبل وليس الدخول فى مهاترات مع الماضى. أكد عزمه البدء من حيث انتهى الآخرون. كانت الخطوة الأساسية فى برنامجه الإصلاحى إرسال البعثات التعليمية لأمريكا وأوروبا. كانت الأعداد قليلة لكن تزايدت بوتيرة منتظمة إلى أن وصل العدد إلى 600 ألف طالب سنويًا. الطفرة الاقتصادية التى تحققت فى ماليزيا خلال عهد مهاتير محمد كانت بسبب البعثات التعليمية. نفس الأمر حدث فى تايلاند وفيتنام وكمبوديا.
بالبحث فى «الذكاء الاصطناعى» عن عدد الطلاب المبتعثين فى الغرب من دول مختلفة سنجد أن اليابان تُرسل 70 ألفًا، والسعودية 15 ألفًا، والكويت 5 آلاف. ماذا عن مصر؟ طبقا لإحصائية منشورة فى نوفمبر الماضى، بلغ عدد طلابنا 4 آلاف و280 مبعوثًا. الحاجة للعودة إلى إرسال البعثات التعليمية الآن أصبحت أمرًا شديد الأهمية. هناك طفرات غير مسبوقة فى المناهج الدراسية وفى العلوم ذاتها تجعل ملاحقة هذه التطورات أمرًا لا مفر منه. عندما اطلعت على المناهج التى درسها حفيدى فى كلية الهندسة (قسم ميكانيكا) وجدتها تختلف عما درسته فى نفس التخصص عام 1970. مواد عديدة جرى إلغاؤها بالكامل ودخلت مواد أخرى لا أعرف عنها شيئًا.
هذه التغيرات الجذرية تستدعى إلقاء نظرة أشمل على مناهجنا وأساليب التعليم لدينا. لا يجب إضاعة الوقت فى الحديث عن مؤهلات القائمين على التعليم، والتعليم العالى. نحن بحاجة إلى منحى استراتيجى مختلف عما سبق. لابد من الاستعانة بخبراء على أعلى مستوى إذا أردنا التعامل مع المستقبل.
فى قلب هذا المنحى، هناك ضرورة لأن تعود البعثات بأكبر عدد ممكن من الطلاب. الرقم الهزيل للمبتعثين المصريين لابد أن يتغير. أتمنى أن أرى 50 أو حتى 100 ألف طالب مصرى فى الخارج.
علينا أيضا الاستفادة من أبنائنا عند عودتهم. الذكاء الاصطناعى يخبرنا بأننا «لا نستفيد بشكل كافٍ من البعثات التعليمية. ففى بعض الأحيان يعود الطلاب بمؤهلات وخبرات متقدمة، لكنهم لا يجدون الفرص المناسبة لتطبيق تلك المعرفة. هناك أيضا نقص فى الحوافز المقدمة لتشجيعهم على العودة والمساهمة فى تطوير مصر».
لا توجد دولة حققت تقدمًا وغادرت التخلف والفقر، إلا وأرسلت أبناءها النابغين للخارج ليتعلموا ويحصلوا على مفاتيح التقدم. خط البداية اختلف تمامًا. المسألة ليست اختيارية. قواعد، ومتطلبات النهضة تغيّرت، وعلينا أن ندرك ذلك وبسرعة.
المصري اليوم