مراكز القوى الإقليمية والدولية

تغيرت عبر الشهور الأخيرة مراكز القوى الإقليمية والدولية فى منطقة الشرق الأوسط على نحو غير متوقع و ربما غير محسوب، فصعدت قوى وهبطت أخرى ووقفت قوى ثالثة بين الموقعين تراجع دورها أو تلوك جراحها أو تناقش سياساتها، ولعل إخفاقات النظام الإيرانى مؤخرًا دليل على ذلك، فلم يكن الأمر نتيجة أخطاء إيرانية فحسب، ولكنه جاء أيضًا نتيجة تغييرات ملحوظة فى مراكز القوى صعودًا وهبوطًا بين دول الجوار، فتركيا أردوغان اليوم ليست هى تركيا أردوغان منذ عدة شهور، ولاشك فى أن ما جرى فى سوريا قد صب لصالح تركيا بشكل إيجابى مكنها من الخلاص من عدد من المشكلات فى وقت واحد، والاطمئنان لدول الجوار التى أصبحت تدرك جيدًا أن بورصة الدول فى المشرق العربى وغرب آسيا عمومًا لم تعد تلك التى كانت عليه منذ فترة وجيزة، وإذا كنّا نعتبر إسرائيل لاعبًا دوليًا وإقليميًا مؤثرًا فى موازين القوى فإننا نعترف بأنها ربحت وخسرت فى الوقت ذاته، فقد ربحت بالتحولات التى جرت فى سوريا وانعكست على علاقاتها بإيران وقطعت الطريق الاستراتيجى لنقل الأسلحة بين طهران وحزب الله فى جانب، بل وطهران وحركة حماس فى جانب آخر، كما أن لبنان قد تغير فأصبحت حدوده مع إسرائيل أكثر أمنًا بالنسبة لهم، لأن التحولات التى جرت فى المنطقة قد انعكست على لبنان وكسرت حالة الجمود التى عانى منها ذلك البلد العربى الجميل، وكانت نتائج ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد شغور المنصب لعامين أو أكثر فضلاَ عن إصرار الرئيس اللبنانى الجديد وحكومته الوطنية على ألا يكون السلاح اللبنانى إلا فى يد الدولة تحديدًا، ولكن إسرائيل خسرت الكثير أيضًا على الجانب الآخر، فقد أصبحت صورتها مشوهة وسمعتها سيئة ملطخة بدماء الإرهاب الذى تمارسه على شعب فلسطين من قتل للأطفال والأبرياء، وتحويل غزة إلى مكان تستحيل الحياة فيه، فضلاً عن تجويع شعب بأكمله وتطبيق نظام الإبادة الجماعية عليه، كما أن نظرة حلفاء إسرائيل فى العالم الغربى قد تغيرت على نحو ملحوظ على المستويين الشعبى والرسمى، وأصبح الجميع ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها دولة مارقة لا تحترم الشرائع ولا تعيش فى ظل الشرعية الدولية، ولكنها تستأثر دائمًا بمواقف أساءت فيها كثيرًا إلى صورتها حتى أمام حلفائها الأقربين.

كما أن صواريخ الحوثيين لاتزال تربك نظام الأمن الإسرائيلى، وهى بذلك قد نالت من أسطورة جيش الاحتلال الذى لا يقهر، وأثبتت أن هناك عوامل ودوافع تشترك جميعها فى تغيير الصورة النمطية لمنطقة غرب آسيا ممتدة حتى شمال إفريقيا، وأصبح للعالم العربى اليوم عدد من التوجهات والسياسات الجديدة التى تحدد المسارات التى طرأت على الخريطة الجيوسياسية فى الشرق الأوسط العربى وجواره الأوروبى والآسيوى والإفريقى، ولنا هنا ملاحظات ثلاث:

أولاً: إن مراكز القوى الإقليمية والدولية ليست دائمة الثبات، بل هى متغير وفقًا للظروف المحيطة والأحداث الجارية، وما أكثر الإمبراطوريات التى ازدهرت وتألقت ثم تدهورت وانتهت، ذلك أنه من العسير أن نتصور أن يكون هناك تألق دائم وانتصار مستمر.

ولو راجعنا خريطة المنطقة فى المائة عام الأخيرة لوجدنا ما يشير بوضوح إلى ازدهار دول وتراجع أخرى، بما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن ميزان القوى يتأرجح من فترة لأخرى وفقًا لعوامل عسكرية واقتصادية وسياسية أيضًا.

وهل يشك أحد فى أن هزيمة 1967 قد أضرت مصر وبعض دول المنطقة العربية على نحو غير مسبوق، فى الوقت الذى أدت فيه إلى تغييرات اقتصادية جذرية سمحت بانتقال القوى من منطقة إلى أخرى داخل ذات الإقليم ومن دولة إلى غيرها وفقًا لظروف كل منها.

ثانيًا: إن الثورات المفاجئة والاضطرابات السياسية تغيّر مجرى الأمور بشكل ملحوظ، فالإصلاح السياسى هو الأولى بالوجود فى هذه المنطقة من العالم بدلا من الثورات القائمة على انقلابات سياسية وعسكرية ربما لا تكون مفيدة على المدى الطويل، والنماذج على ذلك كثيرة، كما أن نمط الزعامة يؤدى إلى عثرات مربكات على الطريق مثلما جرى فى العراق وفى ليبيا تحت زعامات حدية ديكتاتورية غيرت مجرى التاريخ فى كل منهما.

ثالثًا: إن التحالفات القائمة والانقسامات المحتملة والسرعات المتفاوتة فى العلاقات الإقليمية قد لعبت بدورها فى التأثير المباشر على مكانة الدول وقدراتها المستقبلية وأوضاعها الجيوسياسية، كما أن أشكال الحكم ودرجات التفاوت الديمقراطى وظهور قيادات متميزة هى أيضًا عوامل تلعب دورًا فى تكريس مكانة البعض وانهيار البعض الآخر، بحيث تصبح الصورة النهائية مختلفة وفقًا للأوضاع السائدة والظروف الطارئة.

هذه فى عجالة نظرة تركزت حول موازين القوى وما يدور من صعود فى العلاقات الدولية والإقليمية المعاصرة.

يقرأون الآن