على رغم حدة التصعيد في المواقف المتبادلة بين واشنطن وطهران، على خلفية معركة الخطوط الحمر الخاصة بأنشطة تخصيب اليورانيوم، والتي دفعت بكثير إلى الاعتقاد بإمكان تجميد المفاوضات أو وصولها إلى طريق مسدود، فإن الطرفين كشفا في لحظة ارتفاع وتيرة المواجهة السياسية عن الموعد المقرر للجولة السادسة للمفاوضات غير المباشرة التي ستستضيفها العاصمة العُمانية مسقط الأحد المقبل، وأهمية هذه الجولة من التفاوض أنها تأتي في ظل "ثلاثية الضغوط" التي تنصبّ على النظام الإيراني من دون أن تدفعه نحو الخروج عن المسار التفاوضي الذي يتمسك به، وضرورة التوصل إلى تفاهم تحكمه الحاجة إلى إيجاد مخرج يساعده في الابتعاد بالداخل من دائرة الخطر الاقتصادي الذي ارتفع منسوبه خلال الأشهر الأخيرة، في ظل غياب القدرة على العلاج.
"ثلاثية الضغوط" تبدأ بالخط الأحمر الذي رسمته واشنطن واشتراطها تفكيك كامل أنشطة تخصيب اليورانيوم على الأراضي الايرانية، مما دفع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى الدخول مباشرة على خط الرد على المطالب الأميركية، رافضاً أي مساس بهذه الأنشطة التي باتت تشكل تعبيراً عن المصالح الوطنية والقومية والكرامة الإيرانية، إضافة إلى ما يؤكده من حقوق قانونية وعلمية، تاركاً الباب مفتوحاً أمام إمكان الخروج من التفاوض والعودة لنقطة الصفر.
وإضافة إلى الخط الأحمر الأميركي دخلت الـ "ترويكا" الأوروبية، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، على خط التأثير في المفاوضات من خلال التلويح بتفعيل ورقة "آلية الزناد" عبر مجلس الأمن، لإعادة تفعيل قرارات مجلس الأمن بالعقوبات الاقتصادية تحت البند السابع، فالـ "ترويكا" الأوروبية التي تشعر بوجود تواطؤ بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والنظام الإيراني على معاقبتها وإبعادها من المفاوضات، كل للأسباب التي تعنيه، تقف خلف ضغوط "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" التي أصدر رئيسها رافائيل غروسي تقريره الذي وصفته طهران بالسلبي والمسيس والبعيد من الموضوعية والحقيقة، وهذا التقرير الذي شكل البند الأول على جدول أعمال مجلس حكام الوكالة الدولية الذي بدأ يوم التاسع من يونيو (حزيران) الجاري ويستمر حتى الـ 13 من الشهر نفسه، ويتضمن مسودة مشروع قرار تقدمت به واشنطن وعواصم الـ "ترويكا" الأوروبية يدين إيران بسبب أنشطة تخصيب اليورانيوم، ويتهمها بعدم الإيفاء بتعهداتها، سيشكل من جهة مادة للتفاوض والابتزاز من جميع الأطراف بمن فيهم المفاوض الأميركي، ومن جهة ثانية محل اختبار لقدرة حلفاء إيران، وبخاصة روسيا والصين، على تعطيل أي إمكان داخل مجلس الحكام لإحالة الملف الإيراني مرة جديدة إلى مجلس الأمن.
"ثلاثية الضغوط" هذه تضع إيران والنظام أمام تحدي التعامل مع الجهات التي تقف وراء هذه الثلاثية، واختبار قدرتها على عدم الانزلاق إلى رد فعل سريع ومتسرع، سواء في الموقف من المفاوضات أو في التعامل والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وخيار الانسحاب من "معاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل"، أو في الأقل تعطيل ما بقي من عمليات التفتيش والذهاب إلى رفع مستوى التخصيب، وتزيد من صعوبة هذه الخيارات حال الاستنفار التي تعيشها إسرائيل بانتظار اللحظة التي تسمح لها بالانقضاض على إيران وتدمير ما تستيطعه من برنامجها النووي وقدراتها العسكرية.
وعلى رغم تمسك كلا الطرفين بالمفاوضات التي بدأت بينهما برعاية ووساطة عُمانية، لكن عودة الحديث الأميركي عن تصفير التخصيب على الأراضي الإيرانية دفع النظام إلى التراجع خطوة للوراء في مسار بناء الثقة بإمكان التوصل إلى نقاط تفاهم مع الإدارة الأميركية، وما يعنيه ذلك من إمكان إعادة النظر في تعاملها الإيجابي مع المفاوضات، ومساعي التوصل إلى أسس سليمة وقوية لحل جميع الاختلافات مع الغرب والمجتمع الدولي وتطبيع علاقاتها معه.
الرهانات الإيرانية، في حال اصطدامها بتصلب الجانبين الأميركي والغربي بمطالبهما، وتعقيد المشهد بإعادة تفعيل عمل مجلس الأمن والعقوبات، قد تدفعها إلى إعادة النظر في هذا المسار والعودة لحال الشك في عدم وجود نيات حقيقة لدى واشنطن، ومعها الـ "ترويكا" الأوروبية، للتوصل إلى تفاهم واتفاق واضح يحظى بقبول وموافقة جميع الأطراف، ويفتح الطريق أمام بناء علاقات عادية.
مراكز القرار في منظومة السلطة تعتقد بأن أميركا والغرب يعتقدان بأن دفع إيران إلى عدم التعاون يسمح بتشديد العقوبات والحصار الاقتصادي عليها، بالتزامن مع رفع مستوى التهديد العسكري ضدها، وأن الهدف من كل هذه الممارسات هو إجبار إيران على التخلي عن أنشطة التخصيب، لأنها من دون هذه القدرات ستكون أكثر امتثالاً للشروط الأميركية والغربية، مما يسمح بالانتقال بسهولة أكثر إلى تفكيك قدراتها الصاروخية والطيران المسير، وتالياً نفوذها الإقليمي وتغيير سلوكها.
وفي المقابل فإن منظومة السلطة أو الجهات المعنية برسم السياسات الإستراتيجية للنظام لم تعلن موقفاً واضحاً ومباشراً من المبادرة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر الطلب من نظيره الروسي فلاديمير بوتن لعب دور فعال في تقريب المواقف بين وواشنطن وطهران ضمن الرؤية التي أعلنها، فالموقف الغامض أو غير الواضح للقيادة الإيرانية من دخول موسكو على خط المفاوضات قد يكون السبب فيه مخاوف إيرانية من العودة لفخ التفاوض متعدد الأطراف، وعودة الـ "ترويكا" الأوروبية لطاولة التفاوض، وبالتالي قد تكون في مواجهة مطالب متشعبة للأطراف المشاركة، ولن تكون المطالب الإسرائيلية مستبعدة، فضلاً عن أن التجربة الإيرانية في مفاوضات عام 2015 سمحت للمفاوض الروسي بتمرير فقرة "آلية الزناد" في قرار مجلس الأمن، والتي تحولت إلى سيف تضعه أوروبا على رقبة النظام، وإمكان أن تستخدم موسكو ورقة علاقتها مع طهران لتحسين شروطها خلال مفاوضات السلام في أوكرانيا مع واشنطن.
وبناء على هذه المعطيات يبدو أن الخيار الإيراني هو عدم إعطاء الذرائع لنسف المسار التفاوضي، مع الاحتفاظ بموقفها غير الراغب في توسيع دائرة المشاركين فيها، وأن أية تنازلات قد تضعها على طاولة التفاوض في مقابل تمسكها بخطها الأحمر بالتخصيب على أراضيها، من الأفضل أن تكون محصورة بينها وبين واشنطن، إذ تضمن تنفيذ ما يجري الاتفاق عليه، ولا تكون في مواجهة تنصل الأوروبيين الذي عانته خلال العقد الماضي، أو الابتزاز الروسي الذي كلفها كثيراً على مستوى علاقاتها الدولية.