أسوأ الحروب تلك التي تأتي نتيجة فشل الدبلوماسية، وأخطرها ما يلي إفشال المحاولات أو المفاوضات السياسية. هذا ما اختُبر في مقدمات استمرّت أعواماً، ثم في الشهور والأيام الأخيرة التي سبقت اندلاع حرب أوكرانيا. هناك عناصر مشابهة في حال المواجهة بين إسرائيل وإيران، إذ كانت متوقّعة نظرياً طوال العقدين الماضيين مع انكشاف البرنامج النووي الإيراني والأزمة الدولية التي رافقته، وصارت محتملة ثم وشيكة بعد تفجّر الحرب على غزّة وامتدادها إلى لبنان وما نتج عنهما من تغيير في سوريا.
وكما تَعتبر روسيا الآن أن إنهاء الحرب في أوكرانيا بات مرتبطاً بتحييد حلف شمال الأطلسي ووقف توسّعه شرقاً، كذلك ترى إسرائيل والولايات المتحدة أن «اليوم التالي» في غزّة، بل في الشرق الأوسط، مرتبط بالحدّ من الأدوار التي تقوم بها إيران والجماعات الموالية لها.
بعد الهجمات الإسرائيلية على إيران وداخلها، والردّ الإيراني عليها، لم يكن أمام المجتمع الدولي سوى الدعوات إلى «ضبط النفس»، كموقف تقليدي جاهز في مصطلحات الدبلوماسية للتعبير عن شيء من الحياد. ومع استمرار السجال الناري بين الطرفين يبرز التحذير من «إطالة المواجهة» ومن احتمالات «توسّعها» إقليمياً، وإذا طالت فقد تكون لها تداعيات دولية خصوصاً أن الحرب لا تدور بين دولتين متجاورتين جغرافياً.
ولا شك في أن مناخ التوتّر سينعكس على الدول المجاورة بشكلٍ أو بآخر، كما أن مصالح دول كثيرة ستتأثّر. لذا يتعين البحث سريعاً عن مخارج لخفض التصعيد ووقفه، تحديداً لأن فيه مخاطر التعرّض لمنشآت نووية واحتمالات انتشار إشعاعات من دون استعدادات وقائية، وهو ما حذّر منه مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية بقوله: إن تلك المنشآت «يجب ألا تُهاجم أبداً»، وإن «أي عمل يهدّد سلامتها وأمنها قد تكون له تداعيات خطيرة على المواطنين في إيران وخارجها».ومهما طالت المواجهة فلا بدّ من إعادة النزاع إلى طاولة المفاوضات. فالتصعيد الذي لقي تنديداً عالمياً قد يحقق أهدافاً جزئية لكنه لا يصنع حلولاً. وإذا كان السلام هو الهدف الأسمى المحدّد للدبلوماسية فالأحرى إعطاء فرصة كاملة للتوصّل إليه، لا أن يُستخدم وسيلةً لـ«تبرير» الذهاب إلى خيارات القوّة العسكرية.
والحال أن المفاوضات النووية، الأميركية الإيرانية، بدأت في غموض واستمرّت عليه، ولم يكن واضحاً ما إذا كانت ترمي إلى إحياء «اتفاق 2015» مع بعض التعديلات كما أوحى الطرف الإيراني، أم إلى صيغة جديدة كلياً كما أراد الطرف الأميركي. ولم تتضح أيضاً معالم نقطة «التوافق» التي يمكن أن يُبنَى عليها الاتفاق، مع انعدام الثقة بين الطرفين وإصرارهما على «خطوط حمر» لم يتخلَّيا عنها، خصوصاً بالنسبة لتخصيب اليورانيوم داخل إيران والرقابة المتوقّعة على أنشطته.
ثمة لعبٌ بالنار في منطقة بذلت دولُها كلَّ ما في الوسع لصون استقرارها وتحصينه، بما في ذلك الوقوف على مسافة من الطرفين وعدم الانجرار إلى استقطابات دولية ذات مصلحة في تأجيج العداء بينهما. ويسعى التصعيد، من هذا الطرف أو ذاك، إلى حسم صراع له أبعاد تاريخية وجيوسياسية، فضلاً عن تعقيدات أيديولوجية متطرّفة، لا يمكن أن تحسم بالقوّة في ظرف زمني محدود، فمَن يعتقد أن لديه تفوقاً عسكرياً يريد حرباً سريعة وخاطفة بما فيها من خراب، ومن يدرك أنه لا يملك وسائل الحسم يراهن على عنصر الوقت. المشكلة أن التهوّر العسكري يطيل أمدَ المواجهة ويفاقم الخلل في موازين القوى، وبالتالي يهدّد بإقصاء الحلول الدبلوماسية.
الاتحاد