من القاهرة.. الألسنة والسياسة والحرب!

"الحرب" من الأمور الاستثنائية فى حياة البشر، والسياسة من الوسائل التى يستعين بها البشر كل يوم، والألسنة أو اللغة هى التى يجرى بها صياغة الحدث والواقع ونقله إلى صحائف التاريخ. "حرب الإثنى عشر يوما" بين إسرائيل وإيران ومعهما الولايات المتحدة بأدوار مختلفة بين عدو وطرف ووسيط؛ شهدت العلاقة الصعبة بين سردية النصر والهزيمة من ناحية، وإدارة الأزمة الكبرى خلال فترة زمنية قصيرة من ناحية أخرى، وترجمة ذلك كله إلى واقع يمهد لمستقبل من ناحية ثالثة. خط الزمن الذى يشتمل على 12 يوما ترد عليه أيام ليس لها مثيل حيث يوم الجمعة 13 يونيو 2025 هو مفاجأة الهجوم الإسرائيلى الاستراتيجى على إيران بكل ما ورد على ذلك اليوم من نصر ساحق لإسرائيل، وهزيمة كبرى لإيران ترجمتها الألسنة القائدة إلى تهديدات بإنزال العقاب الهائل على إسرائيل مضافة إلى أشكال متعددة من الثأر مصحوبة قبل أن يوغل المساء بالليل بإطلاق الصواريخ الإيرانية على تل أبيب.

ما سبق الواقعة كان نوعا من أنواع الخديعة فى الحرب أو Deception عندما كانت القيادة الإيرانية تنتظر يوم جمعة نشوب الحرب طلوع شمس يوم الأحد حيث يجلس الوفدان الإيرانى والأمريكى فى ضيافة وزارة الخارجية العمانية فى مسقط عُمان للتفاوض حول المسائل النووية. الاعتقاد الإيرانى كان أنه لا حرب إلا إذا أعطت واشنطن الضوء الأخضر إلى إسرائيل؛ والولايات المتحدة لا تستطيع إطلاق الضوء الأخضر طالما أنها تجرى مفاوضات. منطقيا فإنه لا حاجة للحرب طالما أن المقاعد وثيرة على منضدة التفاوض؛ ولكن ذلك عادة ما تكون الطلقة الأولى فى الحرب عندما يتمكن الخادع من المخدوع ويرى الفرصة سانحة لقضاء يوم منتصر.

كان ذلك ما غلب على اللسان العبرى الذى راح منذ 7 أكتوبر 2023 يرى فى كل تقدم إسرائيلى على جبهات الحرب الإسرائيلية مع حماس وحزب الله والحوثيين والميليشيات المتعددة فى سوريا، ومجموع الكل فى جبهة "المقاومة والممانعة" المؤيدة والمسلحة والممولة من طهران؛ ما يؤكد القدرة الإسرائيلية على إعادة تشكيل "الشرق الأوسط" بأكمله بعد تغيير الواقع على مسرح العمليات فى الهلال الخصيب بأكمله. سقوط النظام السورى وما تلاه من تعديلات فى الحدود جعل الخطو على إيران استكمالا لمنطقة استراتيجية واسعة تضم ما شمله توافق "سايكس- بيكو" مع الوصول إلى الخليج أو هكذا ظنت إسرائيل يوم 13 يونيو 2025. الثمار باتت ناضجة لضربة كبيرة رأتها القيادة الإسرائيلية تليق بالقيادة الأمريكية لكى تحصد فيها نصرا يعزز صورتها المعتادة أمام الجمهور الأمريكي؛ والضربة تكون بالتعاون بين البلدين على إزاحة السلاح النووى الإيرانى المنتظر يوم 17 يونيو 2025.

الكلمة التى وصف بها الرئيس ترامب العملية الجوية التى تم بها الهجوم الأمريكى على المواقع "النووية" الإيرانية كانت Obliteration أو "الإزالة" التامة ومن الجذور أى التى لا تبقى ولا تذر. الإدارة الإيرانية التى بدأت فى دخول مرحلة اليقظة قررت أن تفسد على ترامب فرحته وغروره الذى يضعه فى صف المحاربين بأنها فى الواقع تمكنت من نقل الأجزاء الثمينة مما كان تحت الأرض بما فيها اليورانيوم المخصب. أصبح العالم يبحث عن التسمية الحقيقية لما جرى وهل كان تدمير أو محض ضرر. ترامب ذهب بسرعة إلى وصف جديد وهو تخفيض الجائزة من الإزالة التامة إلى درجات أقل عندما وصف العملية الجوية بأنها قامت بتخفيض القدرة النووية لما كان تحت الأرض فى أصفهان أو Downgrading. الفارق كبير ما بين الكلمتين، وبات على الرئيس أن يدافع عنهما معا بمساندة نائبه ووزير دفاعه فى محافل أمريكية وأخرى أوروبية فى قمة حلف الأطلنطى.

وكالة مخابرات الدفاع الأمريكية سربت تقريرا يقيم الهجمة الجوية الأمريكية بأنها سوف تؤخر البرنامج النووى الإيرانى لبضعة شهور! الطريف أن مسؤولين إيرانيين بعد مواقفهم السابقة التى طرحت إنقاذ الثروة النووية الإيرانية قبل الهجوم الأمريكى قررت "الصدق" الذى يقول إن الغارة الأمريكية قد أصابت البرنامج "بضرر جسيم". وهكذا جاء إلى ترامب "شاهد" من أهلها يعينه فى إدارة الأزمة/ الحرب ونقله من موقع تاريخ الجنرالات المنتصرين الذين غيروا تاريخ الحروب المصيرية إلى مجال "صناع السلام".

الوصول إلى هذه النقطة يحتاج إلى تقسيم "النصر" بين الأطراف، والحصول على ما ينقذ ماء الوجه أمام الجمهور؛ ترامب حصل على كل شىء فقد دمر الأسلحة النووية دون دماء نازفة، وبدون إشعاعات قاتلة. ولكنه يحتاج الآن السلام لعل هيئة نوبل تلاحظ جهوده؛ ولكن السلام لا يأتى إلا إذا حصلت إيران على نصر تقول به للأجيال القادمة، فقد حاربت إسرائيل الغادرة ومعها واشنطن وحدها، ولديها ادعاء حصولها على اليورانيوم المخصب 60٪. ولكنها تحتاج ضربة لقاعدة عسكرية أمريكية فجرى تسلسل الأحداث كما هو معلوم. إسرائيل أعلنت انتصارها عدة مرات طوال فترة الحرب؛ اتفقت الأطراف على وقف إطلاق النار بعدما أبلغت إيران قطر والولايات المتحدة بموعد الهجوم على قاعدة العديد.

المصري اليوم

يقرأون الآن