ارتحَلَ زيّاد الرّحباني. كانَ وقعُ رحيله يُشبِهُ وقعَ ألحانِهِ وكلماتِهِ، وربّما أشدّ وقعةً من ذلكَ. زيّاد الذي رحلَ ويخوضُ اليومَ رحلتهُ نحوَ مثواهُ الأخير في بلدة "بكفيّا"، جارة "حملايا" التي أخذنَا منها يوماً على متن "بوسطتهِ" نحوَ بلدة "تنّورين".
مثلنا كانَ زيّاد يحلمُ، وله ذلكَ، أنّ "بلدنا صارت بلد". لكنّها قبل وبعدَ رحيله ظلّت "قُرطة عالم مجموعين". عبقريّ آل الرّحباني، الذي أعطى كُلّاً منّا ما يريدُ. كانَ أشبهَ بـ"سوبرماركت" فكريّة وسيّاسيّة وفنيّة ومسرحيّة. تأخُذُ منها ما تُحبّ، وتتركُ ما لا يُعجبُكَ.
منّا من أحبّ مواقفهِ السّياسيّة. ومنّا من مالَ قلبهُ نحوَ "حسّه الفُكاهي القاسيّ". بعضُنا ذابَت أذناهُ بموسيقى البيانو التي عزَفتها أنامله. وللحقيقة، أنّ منّا من أحبّ من أغاني فيروز ما أنتجَهُ نجلُها من كلماتٍ وألحانٍ وتوزيع. لذلكَ رأينا اليمينَ واليسارَ يحزنُ لرحيلِ زيّاد، ولكلٍّ سببه أو أسبابه.
كانَ زيّاد "صعلوكَ" زمانه. المُتمرّدُ. الثّائر. الشّاعر. السّاحر الذي يستحوذُ على ذِهنِكَ فيأسُركَ إلى عالمهِ المجنون. ذلكَ الجنون الذي نجحَ فيه ابنُ الرّحابنة حيثُ فشِلَ أقرانه. خلطَ موسيقى "الجاز" بألحانِ الشّرقِ وكلمَات العامّة، فأنتجَ ما يصلُحُ تسميتُهُ "ولا شي".
عنيدٌ في كلّ شيءٍ. عنيدٌ في السّياسة. عنيدٌ في الفكاهة. وعنيدٌ في موسيقاه. حتّى أنّه عنيدٌ في مرضِهِ، فعانَدَ الأطبّاء والعِلاجَ وظلّ يساريّاً اعتراضيّاً عبثيّاً رافضاً الخضوعِ لكبِدَهُ الذي أنهكهُ. ثائرٌ على طبيبهِ والجراحة التي ظلّ يُحاولُ إقناعَ زياد بها حتّى لفظَ أنفاسهُ الأخيرة.
عنادُهُ وثورته لا تلمسهما فقط بأعماله. إذ يخرُجانِ من عينيْهِ الذّابلتيْن. ومن ملابسهِ العبثيّة. ومن ابتسامتَهُ التي جعلها عُملةً نادرةً، فكُنّا نضحكُ لمُجرّدِ أن نرى فاهُ مُبتسماً. كانَ يُكثُرُ الصّمتَ وهوُ يُحدّقُ بطاولتهِ ويسندُ يدَهُ على رأسهِ والدّخانُ ينبعثُ من بينِ سبّابتهُ والوسطى. فيُدركُ المرءُ منّا أنّ بعدَ هذا الصّمتُ ستخرُجُ "حكمة فكاهيّة"، أو يصحّ تسميتُها "تحشيشةٌ" يكونُ لها الوقع على المسمعِ والذّهنِ والعقل.
تحتارُ اليومَ فيروز مَن تسأل "كيفك إنتَ؟". أتسألُ الرّاحلُ عاصي؟ أم تسأل زياد الذي التحقَ بأبيه؟ أم تسألُ ريما الضّائعة بين آثارِ الموتِ؟ فهي اليومُ الأمُّ الحزينة فعلاً. ماذا تُجيبُ إذا "سألوها النّاس"؟ فهيَ التي حملَت زياد وحملَها بـ"عوده الرّنّان".
فهوَ أفهمنا أنّ "العقلَ زينة"، وأن نسألَ دائماً "بالنّسبة لبكرا شو؟". استشرَفَ زيادُ زماننا الذي لم يختلف عن زمانِه. فعبرَ الأزمانَ بفكرهِ وعمقِهِ. لا يعرفُ ابنَ الرّحباني إلّا من سامرَهُ يوماً في "الحمرا" التي أحبّها وسكنَهَا، ومرِضَ فيها حتّى فاضت روحهُ بين أبنيتها وانطلقَ موكبُ تشييعه منها نحوَ بكفيّا.