يعيش لبنان على وقع أزمة اقتصادية خانقة، تفرض نفسها بقوة على مفاصل الحياة اليومية للمواطنين، حيث يزداد عبء المعيشة مع كل ارتفاع جديد في أسعار السلع الأساسية. في خضم هذا الواقع الصعب، تبرز مجموعة معقدة من العوامل المحلية والدولية التي تتفاعل معاً لتغذي موجة التضخم المستمرة، بدءاً من التبعية شبه الكاملة للاستيراد، مروراً بتداعيات الأزمات الجيوسياسية على سلاسل الإمداد العالمية، ووصولاً إلى الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المحلي.
الاعتماد الكبير على الاستيراد: نقطة الضعف الأساسية
يؤكد مدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة محمد أبو حيدر أن "لبنان يستورد 86% من حاجاته"، وهي نسبة تكشف عن هشاشة الهيكل الاقتصادي اللبناني. هذا الاعتماد المفرط على الخارج يجعل الاقتصاد الوطني رهينة للتقلبات العالمية، حيث يوضح أن "التغيرات المناخية أثرت على أسعار السلع الأساسية عالميًا، مما انعكس على لبنان بسبب اعتماده الكبير على الاستيراد".
الأسباب الخارجية: عواصف لا يمكن تجنبها
يشير أبو حيدر لـ"وردنا" حول أزمة الشحن الدولي، إلى أن "بعض البواخر التي كانت تسلك باب المندب صارت تسلك عبر القرن الأفريقي، مما زاد مدة الشحن حوالي 20 يومًا".
بينما يقول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي لـ"وردنا"، إن تكلفة شحن بعض السلع ارتفعت من 2000 إلى 6000 دولار"، مع التأكيد على أن "الضرائب والرسوم الجمركية التي تصل أحيانًا إلى 50% تزيد العبء على الأسعار النهائية".
وعن تكاليف التأمين، يلفت أبو حيدر الانتباه إلى أن "ارتفاع كلفة التأمين بسبب المخاطر الجيوسياسية في المنطقة رفع قيمة بوليصات التأمين على الشحنات".
وحول التضخم العالمي، يرى ابو حيدر أن تداعيات جائحة كورونا ما زالت تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، مما ينعكس على لبنان بشكل مضاعف.
الأسباب الداخلية: أزمات متراكمة
يكشف أبو حيدر، عن أن "رفع سعر الدولار الجمركي" ساهم في تفاقم الأزمة. بينما يضيف بحصلي أن "ارتفاع تكاليف الاستيراد والضرائب وسعر صرف اليورو، الذي يُستخدم في شراء أكثر من 30% من المستوردات" شكل ضغطًا إضافيًا.
كما ويؤكد أبو حيدر أن "ارتفاع الكلفة التشغيلية مثل تكاليف الوقود بسبب انقطاع الكهرباء أثّر على المصانع والمستوردين وحتى الأسواق"، محذرا من "الممارسات غير القانونية لبعض التجار الذين يستغلون الأوضاع لتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب المواطنين".
الإنتاج المحلي: وهم الاستقلالية
يكشف بحصلي عن مفارقة مهمة: "حتى ما يُعتقد أنه إنتاج محلي يعتمد في الحقيقة على مستوردات. فصناعة الشيبس المحلية تعتمد على "البطاطا، الزيت، الأكياس، الكرتون المستورد"، ومنتجات الألبان تعتمد على "أعلاف المواشي المستوردة" .
ويخلص بحصلي إلى أن "حوالي 80% من الاستهلاك المحلي يعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على الاستيراد".
الإجراءات الحكومية بين الواقع والطموح
يشرح أبو حيدر الإجراءات المتخذة، حيث تقوم الوزارة ب"ضبط المخالفات وإحالتها إلى القضاء، مع رفع قيمة الغرامات وتمكين المراقبين من صلاحيات أوسع، كما يتم العمل على إقرار تعديلات جديدة لقانون حماية المستهلك لتشديد العقوبات وجعلها أكثر رادعة، هذه الإجراءات تهدف إلى حماية المستهلك ولكنها تبقى غير كافية في ظل غياب إصلاحات هيكلية.
وبشأن التحول الرقمي وتسهيل الاستيراد، أطلقت وزارة الاقتصاد منصة MoET Digital Services لتمكين المواطنين من الإبلاغ عن أي مخالفات ومتابعة شكاويهم بشكل شفاف.
كما تم العمل على "تخفيض التكاليف الإدارية عبر الأتمتة، خاصة في ظل الأزمات مثل الحرب" . هذه الخطوات تمثل تطورًا إيجابيًا ولكنها تحتاج إلى وقت لتحقيق نتائج ملموسة.
اما فيما يخص رؤية القطاع الخاص، يعبر بحصلي عن تحفظات على بعض الإجراءات الحكومية: كالمراقبة الحكومية للأسعار ليست كافية، والاحتكار في المواد الغذائية غير دقيق، فالسوق اللبناني يتميز بتنافسية عالية، أما الاحتكار الحقيقي يتركز في قطاعات الخدمات العامة مثل الكهرباء والاتصالات".
ويدعو بحصلي إلى "مكافحة الاقتصاد غير الشرعي والتهريب، وتخفيف الأعباء عن المستوردين والتجار الشرعيين، وتعزيز التنافسية كحل أمثل لضبط الأسعار".
التوقعات المستقبلية: بين التفاؤل والحذر
يتوقع بحصلي أن "تشهد الأسعار استقرارًا نسبيًا أو ارتفاعًا طفيفًا خلال الصيف بسبب العوامل العالمية"، محذرًا من أن "الموسم الصيفي قد يشهد ضغطًا على الأسعار مع زيادة الطلب". لكنه يشترط ألا "تحدث اضطرابات أمنية" لكي تبقى الأمور تحت السيطرة.
لن تنجح الحلول الجزئية في معالجة الأزمة. فبينما يركز أبو حيدر على "ضرورة التعاون بين جميع الأطراف لضمان استقرار الأسعار وحماية المستهلك"، يرى بحصلي أن "حل أزمة الأسعار يتطلب سياسات شاملة تعزز التنافسية وتدعم القوة الشرائية".
تبقى الحقيقة الأكثر إيلامًا أن لبنان يواجه أزمة مركبة تتطلب معالجة جذرية لكل من:
1. الأسباب الهيكلية للاقتصاد
2. تحسين القدرة الشرائية للمواطنين
3. إصلاح منظومة الاستيراد والتموين
4. مكافحة الفساد والتهريب
فهل تكون هذه الأزمة فرصة حقيقية لإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني، أم أنها مجرد حلقة في سلسلة الأزمات التي لا تنتهي؟ الإجابة تكمن في الإرادة السياسية والقدرة على تنفيذ الإصلاحات الجذرية التي طالما تم تأجيلها.