عربي

جولة لاريجاني تكشف تراجع الدور الإيراني في "عواصم النفوذ"

جولة لاريجاني تكشف تراجع الدور الإيراني في

جاءت جولة أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى بغداد وبيروت في سياق مختلف تماماً عن النمط الذي اعتادت طهران أن تُدير به علاقاتها مع ساحاتها الحليفة خلال العقدين الماضيين.

فالعاصمتان اللتان مثّلتا لسنوات عمقاً استراتيجياً لمشروع النفوذ الإيراني، استقبلتا الرجل وسط ظرف سياسي إقليمي ومحلي يفرض قيوداً غير مسبوقة على قدرة طهران على فرض أجندتها المباشرة. 

وفي ظل بروز توازنات محلية وإقليمية جديدة، لم تعد التحركات الإيرانية تمر تلقائياً من دون حسابات مضادة أو شروط تقيّد اندفاعها.

سيادة عراقية بلا تنازلات

في بغداد، حملت اللقاءات الرسمية عناوين "التعاون الأمني" و"ضبط الحدود"، لكنها جرت في ظل بيئة سياسية تميل إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والفصائل الموالية لإيران.

المسؤولون العراقيون، وهم يديرون ملفات شائكة مثل دور الحشد الشعبي في المؤسسة الأمنية، أوحوا بأن زمن التفويض المفتوح للفصائل قد انتهى، وفق ما أفادت به مصادر سياسية عراقية لـ"إرم نيوز".

وأكدت المصادر أن أي تفاهمات يمكن أن تُمنح لإيران تمر عبر قنوات الدولة، وبشروط أكثر صرامة.

ويبدو أن لاريجاني جاء محملاً بملفات تتعلق بمستقبل تلك الفصائل، ساعياً إلى تثبيت نفوذها وضمان استمرار دورها المستقل، إلا أن هذه الجهود اصطدمت مباشرة بمسار حكومي واضح لتقليص استقلاليتها ودمجها الكامل في المؤسسة الأمنية الرسمية، استجابة لضغوط داخلية وخارجية متزايدة.

وبذلك تحولت الزيارة، بحسب المصادر، من محاولة لتعزيز مواقع إيران في العراق، إلى محطة أظهرت محدودية قدرتها على التأثير في قرارات استراتيجية تمضي بغداد في تنفيذها دون التفات إلى الاعتراضات أو المساعي الإيرانية.

ورغم أن جدول لاريجاني شمل لقاءات مع كامل الهرم السياسي في العراق، إلا أن طبيعة المحادثات، وفق المصادر، كشفت أن الإطار كان أقرب إلى تبادل عناوين عامة وصيغ دبلوماسية تقليدية.

وتابعت المصادر: "لم تُعلن أي تفاهمات تتجاوز ملف التعاون الأمني وضبط الحدود، ما يعكس رغبة عراقية في إبقاء الزيارة ضمن نطاق بروتوكولي رفيع من حيث الشكل، لكنه محدود المضمون من حيث النتائج".

هذا الفارق بين مستوى الحضور الرسمي وحجم المخرجات الفعلية يُقرأ كدليل على أن بغداد أرادت إرسال إشارة واضحة بأن بغداد تتجنّب منح طهران أي التزامات أو امتيازات إضافية في الملفات الحساسة، وفي مقدمتها وضع الحشد الشعبي ودوره المستقبلي، وفق ذات المصادر.

انحسار الدور الإيراني في العراق 

وفي سياقٍ موازٍ، توضح المصادر أن أحد أبرز التحديات التي واجهت لاريجاني خلال زيارته، هو تسارع الخطوات الحكومية لإقرار تعديلات على قانون الحشد الشعبي تقضي بإخضاع جميع ألوية الحشد لرقابة وزارة الدفاع ودمجها الكامل في المنظومة الأمنية الرسمية.

هذه التعديلات التي تحظى بدعم ملحوظ في البرلمان، تمثل تحولاً جوهرياً في مقاربة الدولة لملف الفصائل المسلحة، إذ تضع حدوداً واضحة أمام أي محاولة خارجية لتمديد نفوذها أو ضمان استقلاليتها.

وبدا العنوان المعلن للزيارة، وهو "ضبط الحدود"، في جوهره أقرب إلى محاولة عراقية لحصر النقاش مع لاريجاني في ملفات فنية محدودة، مثل مكافحة التهريب ومنع التسلل، مع استبعاد أي ترتيبات يمكن أن تمنح إيران نفوذاً مباشراً على إدارة هذه الملفات الحساسة، وفق ما أشارت إليه مصادر "إرم نيوز".

وقالت المصادر: "هذا التقييد عكس رغبة واضحة لدى بغداد في تثبيت سيادة القرار الأمني، ومنع تكرار سيناريوهات النفوذ الميداني المباشر التي عرفها العراق في مراحل سابقة".

ويبدو أن مستوى الحضور الرسمي في استقبال لاريجاني كان رسالة مقصودة بأن العراق يتعامل مع طهران من موقع الندّ، وليس التابع، بحسب حديث الباحث السياسي عمار الحمادي لـ"إرم نيوز".

واعتبر الحمادي أن إتاحة اللقاءات مع الرئاسات الثلاث لم تكن تعني بالضرورة وجود استعداد لتقديم تنازلات، وإنما كانت طريقة لإيصال خطاب السيادة من أعلى المستويات مباشرة.

وقال إن التركيز المعلن على التعاون الأمني وضبط الحدود عكس رغبة الحكومة العراقية في تحديد مسار المحادثات نحو ملفات تقنية يمكن ضبطها، وتحييد النقاش عن القضايا الخلافية الكبرى، وفي مقدمتها وضع الحشد الشعبي.

وبين الحادي أن هذا التوجيه "يعكس أسلوباً جديداً في إدارة العلاقة مع إيران يقوم على الإقرار بالعلاقة الثنائية، لكن بشروط عراقية صِرفة".

ولفت إلى أن الدور الإيراني، يواجه اليوم سلسلة من التحديات البنيوية التي تجعل مسار انحساره أكثر احتمالاً من تمدده، معتبراً أن أبرز المؤشرات تتمثل في تزايد قدرة الدولة العراقية على فرض أجندة سيادية في الملفات الأمنية، خاصة عبر خطوات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية ودمج التشكيلات المسلحة ضمن أطر رسمية.

وشدد على أن هذا المسار، حتى وإن كان بطيئاً، يحدّ تدريجياً من قدرة طهران على استخدام الفصائل كأداة نفوذ سياسي وميداني.

أما المقومات التي تدعم هذا الانحسار فتشمل الإرهاق الاقتصادي الإيراني الداخلي، الذي يقلل من قدرتها على تمويل حلفائها بالمستويات السابقة، إضافة إلى تبدل المزاج الشعبي العراقي الذي أصبح أكثر حساسية تجاه أي مظهر من مظاهر التبعية الخارجية، بحسب الحمادي.

مواقف لبنانية حاسمة تكبح الطموح الإيراني

أما في بيروت، فقد واجهت الزيارة سياقاً داخلياً أكثر حساسية، الأزمة الاقتصادية الخانقة، وضغوط دولية متزايدة لتقليص نفوذ ميليشيا حزب الله، جعلت أي حضور إيراني يُقرأ من منظور الأزمة.

وفي الخطاب السياسي اللبناني الذي رافق زيارة لاريجاني، بقي المبدأ القائل بأن "السلاح يجب أن يبقى بيد الدولة" حاضراً كإطار مرجعي تتبناه المؤسسات الرسمية، وفق ما أفادت به مصادر دبلوماسية لبنانية لـ"إرم نيوز".

هذا المبدأ، وإن لم يغيّر مباشرة في طبيعة علاقة حزب الله بإيران، فإنه يضع أي تحرك خارجي بما في ذلك المساعي الإيرانية، أمام حدود واضحة يفرضها الخطاب السيادي، ويعكس وضوحاً أكبر في تحديد سقف النفوذ الخارجي المقبول.

وبحسب ما أكدته المصادر، فإن المداولات التي رافقت زيارة لاريجاني عكست إدراكاً متزايداً لدى أوساط القرار في بيروت بأن أي تسوية سياسية أو اقتصادية مقبلة لن تكون قابلة للحياة دون معالجة ملف السلاح غير الشرعي ضمن إطار الدولة.

وأشارت المصادر إلى أن هذا الإدراك لم يأتِ استجابة لضغوط خارجية فحسب، بل أيضاً نتيجة تراكم أزمات داخلية جعلت استمرار المعادلة الحالية عبئاً على الاستقرار الوطني. 

وكشفت أن لاريجاني حاول خلال اجتماعاته المغلقة طرح أفكار تتعلق بضمان بقاء حزب الله لاعباً رئيسياً في أي تسوية سياسية مقبلة، عبر ترتيبات تضمن له دوراً أمنياً موازياً للمؤسسات الرسمية، إلا أن الرد اللبناني، كان واضحاً بأن أي صيغة من هذا النوع غير قابلة للنقاش خارج إطار سلطة الدولة.

وفي هذا السياق، واجه لاريجاني خلال زيارته إلى بيروت جداراً من التحفظات حيال أي صيغة تُبقي السلاح خارج سلطة المؤسسات الرسمية، الأمر الذي جعل مسعى طهران لتثبيت وضع حزب الله كما هو اليوم يفقد الكثير من زخمه.

ولفتت المصادر إلى أن هذا الموقف لم يكن معزولاً عن المشهد الإقليمي، حيث ترافق الموقف اللبناني مع دعم عربي ودولي متزايد لترسيخ مفهوم السيادة الكاملة كشرط لأي دعم أو استثمار، وهو ما يضع سقفاً واضحاً أمام أي محاولة إيرانية لتوسيع أو تحصين نفوذها في الساحة اللبنانية.

 أدوات قديمة في بيئة جديدة

ولا يمكن فصل الموقف اللبناني الحازم حيال حصر السلاح بيد الدولة عن التحولات الإقليمية الأوسع التي تعيد رسم حدود النفوذ في المنطقة، فكما واجهت طهران في العراق مساراً متصاعداً لدمج الفصائل المسلحة في بنية الدولة وتقليص استقلاليتها، تجد نفسها في لبنان أمام بيئة سياسية أشد حساسية لأي مظهر من مظاهر الاحتكام إلى السلاح خارج إطار المؤسسات، وفق ما صرّح به المحلل السياسي إلياس سليمان لـ"إرم نيوز".

واعتبر سليمان أن موجة الانفتاح العربي على بيروت، المقرونة بشروط واضحة حول تعزيز سيادة الدولة، باتت تشكل شبكة ضغط متداخلة تضعف قدرة إيران على المناورة.

وبذلك، تصبح زيارات من طراز زيارة لاريجاني، مهما كانت محمّلة بالرسائل والوعود، غير كافية لكسر هذه المعادلات الجديدة التي تتقاطع فيها الحسابات الداخلية مع التوازنات الإقليمية والدولية، وفق تقدير سليمان.

وأكد أن "إيران، حين تفقد السيطرة المباشرة على القرار في دولة حليفة، تميل إلى تفعيل أدواتها الاقتصادية والأمنية غير المباشرة، كما فعلت في تجارب أخرى، لكن في حالتي بغداد وبيروت، هذه الأدوات نفسها تواجه تحديات جدية، فالعقوبات تقلص من قدرة طهران على الدعم المالي، والبيئة السياسية في البلدين لم تعد تتقبل بسهولة إعادة إنتاج معادلات النفوذ السابقة".

ومن هذا المنظور، لم تكن زيارة لاريجاني إلى بيروت فرصة لإحداث تفاهمات استراتيجية بقدر ما كانت محاولة لضبط الإيقاع مع عاصمة لم تعد ترى في النفوذ الإيراني ضمانة مطلقة، وإنما عنصراً يجب موازنته مع اعتبارات أخرى، وفق مصادر "إرم نيوز"، التي أشارت أيضاً إلى أنه "حتى الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقة أصبح إنجازاً بحد ذاته، لكنه إنجاز مؤقت، رهن بالتطورات المحلية والإقليمية".

وأظهرت جولة لاريجاني أن طهران لم تعد قادرة على فرض إيقاعها السابق في بغداد وبيروت، وأن قدرتها على ترسيخ نفوذها تصطدم اليوم بوقائع سياسية وأمنية جديدة تضع السيادة الوطنية في المقدمة، فاللقاءات رفيعة المستوى لم تُترجم إلى مكاسب ملموسة، والمطالب الإيرانية قوبلت بسقف واضح من الرفض والتحفّظ، ما عكس إدراكاً متزايداً بأن زمن الهيمنة المطلقة في العراق ولبنان قد انقضى.

يقرأون الآن