في خطوة غير مسبوقة، أعلن مجلس الوزراء اللبناني عن تشكيل هيئة حكومية خاصة لتنظيم زراعة القنّب الهندي، المعروفة شعبيًا بـ"الحشيشة"، لأغراض طبية وصناعية. هذه المبادرة التي طال انتظارها، تمثل تحوّلًا جذريًا في مقاربة الدولة لملف لطالما كان مثار جدل بين القانون والواقع، بين الحاجة الاقتصادية والموانع الأخلاقية والدينية.
من كان يتخيّل أن "الحشيشة"، التي طالما نُظر إليها على أنها آفة ممنوعة، قد تتحول إلى مشروع اقتصادي ودواء محتمل؟ لكن السؤال الأهم: هل لبنان مستعد فعلًا لهذه الخطوة؟ ومن سيراقبها؟ ومن يستفيد منها؟!
الهيئة تبدأ عملها؟
يتحدث وزير الزراعة نزار هاني عبر "وردنا" عن مهمة الهيئة الجديدة، والتي تبدأ بوضع خطة متكاملة تشمل النظام الداخلي، آلية إصدار التراخيص، والتواصل مع المزارعين والمصنّعين، تمهيدًا لبدء مرحلة التطبيق. وأوضح أن الأولوية ستكون لصغار المزارعين لا للشركات الكبرى، مع إتاحة استيراد بذور قنّب خالية من المواد المخدّرة، كـ THC وCBD، بهدف دعم الزراعة الصناعية والطبية دون مخاطرة جنائية.
كما يشير إلى أن البقاع الشمالي، باعتباره منطقة تاريخية لزراعة القنّب، سيكون نقطة الانطلاق، مع خطة لتوسيع الزراعة إلى مناطق أخرى، خصوصًا أن النبتة يمكن زراعتها في خيم أو باستخدام وسائل حديثة.
إطار تشريعي وتنظيمي متكامل
في خطوة عملية لترجمة القانون رقم 178/2020 إلى واقع ملموس، يوضح رئيس الهيئة الناظمة لزراعة القنّب، داني فاضل، عبر "وردنا" أن الهيئة ستبدأ عملها بوضع إطار تشريعي وتنظيمي متكامل يشمل النظام الداخلي للهيئة، المراسيم التطبيقية، والمنصة الإلكترونية التي ستصبح المرجع الرسمي لكل طلبات التراخيص والإعلانات.
ويؤكد فاضل أن أول قرار سيصدر عن الهيئة سيكون خطة وطنية مرحلية تحدد أولويات الزراعة والمعايير العلمية والإدارية وجدول العمل التنفيذي للعام الحالي.
وبحسب فاضل، سيتم فتح باب التراخيص فور نشر مرسوم تعيين الهيئة وعقد أول اجتماع رسمي لها، مع إطلاق المنصة الإلكترونية لضمان الشفافية وتقديم الطلبات بدون وساطة.ويوضح أن الأولوية ستكون للمزارعين اللبنانيين، خصوصًا من المناطق التي اشتهرت تاريخيًا بزراعة القنّب، وللشركات الصغيرة والمتوسطة، في محاولة لضمان إشراك المجتمع المحلي وتحفيز الاقتصاد الريفي.
معايير الحصول على الترخيص ستكون واضحة ومعلنة عبر المنصة، وتشمل الجهوزية القانونية، البنية التقنية للأراضي والمصانع، الخطة التشغيلية، والالتزام بنظام تتبع إلكتروني كامل. كما ستضع الهيئة آليات لمنع احتكار القطاع، من خلال سقوف للإنتاج ونسب محددة من التراخيص للمزارعين الأفراد، إضافة إلى نشر نتائج التراخيص والمعايير المعتمدة بشكل علني لضمان تدقيق إعلامي وشعبي فعال.
ويشير فاضل إلى أن المزارعين الصغار سيشكلون العمود الفقري للمشروع، مع توفير تدريب عملي ومنافذ بيع مباشرة عبر المنصة، ما يضمن عدالة السوق واستدامة الدخل.
وفي الوقت نفسه، سيتم تعاون الهيئة مع وزارة الزراعة والجهات الأمنية لضمان الرقابة على كامل سلسلة الإنتاج، من الزراعة إلى التصنيع والتوزيع، والحد من أي محاولات تهريب أو استخدام القنّب لأغراض غير مشروعة.
وأخيرًا، يلفت إلى أن التمويل متوفر من موازنة الدولة ورسوم التراخيص، مع إمكانية الاستفادة من دعم تقني ومالي دولي، لكن الهدف هو بناء نموذج مستقل وشفاف يعكس التزامات القانون ورغبة الحكومة في تنظيم القطاع بشكل مستدام.
تدريب... وترخيص... ومتابعة
التراخيص ستكون بيد الهيئة، من خلال لجان تضم نقابات وتعاونيات زراعية تطّلع على الملفات وتوصي بمنح التصاريح. في المقابل، تتولى وزارة الزراعة مهام الدعم الفني، من تحسين نوعية التربة إلى تدريب المزارعين ومراقبة الجودة، لكن الإدارة المباشرة للقطاع ستبقى تحت إشراف الهيئة.
الزراعة لن تكون عشوائية، فالمشروع يشترط مسارات إنتاج دقيقة، من نوع البذور إلى طريقة الزرع، وصولاً إلى شكل التصنيع والتسويق. والهدف، كما تقول الجهات الرسمية، هو بناء منظومة إنتاج تراعي المعايير العالمية.
من الناحية القانونية، يؤكد المحامي جاد طعمه أستاذ مادة القانون في الجامعة اللبنانية لـ"وردنا" أن المزارعين الذين لا يلتزمون بالحصول على ترخيص مسبق من الهيئة، سيعتبرون مخالفين للقانون، ما قد يعرّضهم للملاحقة القضائية، مصادرة المحاصيل، والغرامات، بل وحتى السجن في بعض الحالات.
القانون إذا لا يشرّع الزراعة مطلقًا، بل يحدّدها في إطار ضيق وواضح.
وبالعودة إلى العام 2020، تم تجاوز عقبة تشكيل الهيئة الناظمة لزراعة القنّب، بعد إجراء مباراة في الخدمة المدنية أفضت إلى تعيين داني فاضل رئيسًا لها. وكان يفترض أن تُستكمل التعيينات لاحقًا ضمن مسار قانوني ومؤسساتي واضح. إلا أن الأمور لم تسر كما هو متوقع، ولا تزال البلاد حتى اليوم بانتظار صدور المراسيم التطبيقية، ما يُبقي مستقبل هذا القطاع عالقًا بين النوايا والإجراءات المؤجلة.
النائب أنطوان حبشي، عضو كتلة "الجمهورية القوية"، يرى عبر "وردنا" أن الهيئة الناظمة قادرة على أداء دورها بكفاءة إذا توفرت الإرادة لذلك. لكنه يُقر في الوقت نفسه بصعوبة العمل المؤسسي في لبنان في ظل التعطيل المزمن وغياب الإرادة الجدية في استكمال البنية القانونية والتنفيذية. ويُعوّل على صدور المراسيم بأسرع وقت ممكن لفتح باب الاستثمار بطريقة قانونية وواضحة، بحيث يصبح المستثمر على بيّنة مما هو مقبل عليه.
تستند هذه المقاربة إلى عدد من الدراسات التي أظهرت أن تشريع القنّب لأغراض طبية وصناعية يمكن أن يجذب الاستثمارات، ويُنشئ دورة اقتصادية منتجة تُشجع على دخول القطاع الخاص بطريقة منظمة. التجربة المغربية تُقدَّم كنموذج يمكن الاستفادة منه في هذا السياق، حيث أُقرّ القانون وبدأت الخطوات العملية لتطبيقه ضمن أطر شرعية.
بحسب حبشي، فإن ضبط الفساد لا يتم فقط من خلال سنّ القوانين، بل عبر الرقابة الجدية. الدولة، عبر إشرافها على القطاع وتنظيمه، تمتلك فرصة للحد من الفساد من خلال فرض المنافسة ومحاسبة الجهات المخالفة، على أن تبقى الهيئة الناظمة ملتزمة بتطبيق القوانين بحزم.
ويُشير أيضًا إلى أن المزارع، متى دخل في إطار الزراعة الشرعية، سيكون دخله أفضل، ما يُقلّل من اعتماده على السوق السوداء التي يستفيد منها التجار. هكذا، تصبح مكافحة التهريب ممكنة، خاصةً إذا أدّت القوى الأمنية دورها بالتوازي مع تطبيق القانون، فيتحول المزارع إلى شريك في الاقتصاد القانوني بدل أن يكون رهينة للزراعة غير الشرعية.
الرأي الديني
وفقًا لفتوى صادرة عن مكتب المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، فإن زراعة القنّب والتجارة به لا إشكال فيها شرعًا، ما دام الغرض منها مشروعًا وعقلائيًا (كالاستخدامات الصناعية). أما الاستخدام الطبي للمواد المخدّرة المستخلصة من القنّب، فيجوز فقط إذا أوصى به الطبيب المتخصص، وبالكمية المحددة للعلاج.
دار الإفتاء المصرية، من جهتها، أصدرت فتوى مشابهة من حيث الجوهر، إذ اعتبرت أن استخدام القنّب كدواء لا يُباح إلا عند انعدام البديل الطبي، وتحت إشراف طبي موثوق، وبالقدر الضروري فقط. الشرط الأساسي هنا أن يبقى الاستخدام في إطار الضرورة، لا التوسع.
صوت المزارعين: بين الاحتكار والمخاوف
من داخل الجسم الزراعي، عبّر ممثل التعاونيات الزراعية، جورج فخري، عبر "وردنا" عن قلقه من تغوّل الشركات الكبرى على حساب المزارعين الصغار، مشيرًا إلى ضرورة التوازن والعدالة في منح التراخيص. وأكد على أهمية إشراك التعاونيات كأطر تنظيمية تمتلك الحق في طلب التراخيص وفق القانون.
وشدد فخري على أن التجربة يجب أن تبدأ بتدريب حقيقي، مذكّرًا بأن هناك مقترحات سابقة لإطلاق حقول تجريبية بالتعاون مع الجامعات لم تُنفّذ بعد. كما أشار إلى أن نقابة مزارعي القنب الطبي والصناعي قيد التأسيس ستلعب دورًا محوريًا في دعم وتنظيم هذه الزراعة.
القنّب.. بين التاريخ والطب
لم تكن نبتة القنّب دخيلة على هذه الأرض. يشير الدكتور حسن منصور، المتخصص في أمراض الجهاز العصبي، إلى نقوش تعود للعهد الروماني في قلعة بعلبك، تُظهر استخدامات هذه النبتة، التي استُعملت لقرون في التسكين والتداوي وحتى الطقوس.
في العصر الحديث، تبيّن أن لهذه النبتة خصائص علاجية معترف بها، لا سيما في علاج الآلام المزمنة، حالات السرطان، الصرع المقاوم، اضطرابات الشهية، وحتى التقيؤ الناتج عن العلاج الكيميائي.
الدكتور منصور يلفت إلى أن القنّب يعمل مباشرة على الجهاز العصبي، مما يجعله فعالًا في التخفيف من الألم حين تعجز المسكنات التقليدية.
ومع ذلك، لا يُخفي القلق من مساوئ هذه النبتة، محذرًا من آثارها السلبية عند إساءة استخدامها: إدمان، اضطرابات نفسية، ضعف في التركيز والذاكرة.
برأيه، لا تزال الدولة بعيدة عن الجاهزية المطلوبة لتبنّي القنّب كعلاج رسمي، نظرًا للثغرات الأمنية والصحية والرقابية.
مكاسب اقتصادية واعدة... بشروط
الخبير الاقتصادي بيار الخوري يرى أن لبنان أمام فرصة ذهبية، إذا أُحسن التخطيط. فالدراسات الأولية تشير إلى أن إيرادات القطاع قد تبدأ من 20 مليون يورو سنويًا، وقد تتجاوز 80 مليونًا في حال التوسّع وضمان أسواق تصدير ثابتة، خصوصًا إلى أوروبا التي تشهد طلبًا متزايدًا على المنتجات الطبية المستخرجة من القنّب.
لكن المنافسة مع دول ككندا والبرتغال تتطلب التزامًا صارمًا بالمعايير الأوروبية، مثل شهادات EU-GMP ونظام تتبّع الشحنات، إضافة إلى تطوير صناعات تحويلية تجعل من القنّب مصدرًا لمنتجات بناء وألياف ونسيج وأدوية.
الخوري يحذّر من أن فقدان الشفافية قد يحوّل المشروع إلى أداة احتكار بيد المتنفّذين. لذا يدعو إلى ربط جزء من الإيرادات بصندوق إنمائي لصغار المزارعين، كخطوة لضمان التوازن والتنمية.
تحدّيات الصحة... والتطبيق
من ناحيته، يرى الدكتور فراس الأبيض، وزير الصحة السابق، أن استخدام القنّب الطبي ليس سابقة دولية، بل ممارسة رائجة في عدة بلدان، ما دام يخضع لضوابط صارمة. يشير إلى أن النظام اللبناني قادر على هذه الخطوة، شرط أن تُطبّق القوانين دون استثناءات، ويُمنع التخزين أو التهريب أو التلاعب في التصنيع.
الأبيض يشدد على أن القضية لا تتعلق فقط بالسعر أو وفرة المنتج، بل بالرقابة على طريقة استخدامه، مؤكّدًا أن الوزارة سبق وناقشت المشروع في عهد الوزير عباس الحاج حسن، وأن القرار الحالي هو امتداد لمسار بدأ منذ سنوات.
من التشريع إلى التطبيق... أين نقف؟
القنّب في لبنان لم يعد مجرد "نبتة خارجة عن القانون"، بل مشروع متعدّد الأوجه: طبي، اقتصادي، زراعي، قانوني، وحتى ديني. لكن نجاح هذا المشروع لا يُقاس بمجرد إقرار القانون أو تشكيل هيئة، بل في القدرة على التنفيذ النزيه، الرقابة الفعالة، وحماية الحلقة الأضعف: المزارع.
اليوم، تبدأ مرحلة جديدة، لكن لا تزال الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل يستطيع لبنان أن يخلق توازنًا بين المصلحة الصحية والمردود الاقتصادي؟ بين الاستثمار والتنمية؟ بين الزراعة الشرعية ومنع الانحراف؟.