عندما كان جيل التسعينيات لا يزال على مقاعد الدراسة في صفوف المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة، كانت جُلّ المواضيع المختارة في الجزء الخاص بـ"التعبير الكتابي" تتحدث عن الفقر والمخدرات والبطالة والإنتحار، كل فرد من هذا الجيل كتب موضوعًا عن هذه الأزمات لا محالة.
كان الفقر حينها يهيمن على الأحياء الشعبية وأزقتها وعلى الضواحي والأرياف، مثله مثل المخدرات والبطالة، أما الإنتحار فكان خبر وروده يشكل حالة "استهجان" لدى الشعب اللّبناني. لم يتوقّع هذا الجيل أن تتحوّل المواضيع "المملة" والتقليدية حينها إلى "يوميات".
بات الإنتحار في الآونة الأخيرة، مدار حديث اللبنانيين وذلك بسبب ما شهدته الأيّام والأسابيع المنصرمة من كثرة حصوله. ففي الأيام الماضية، حاول مواطنٌ في العقد الرابع من عمره إلقاء نفسه عن جسر بقاق الدين – كسروان ولكن تمكنت عناصر الدفاع المدني من إنقاذه. ولكن يمكننا القول أن الأخير كان أوفر حظًا على خلاف من سبقه في الأيام الماضية حيث سجلّ العديد من حالات الإنتحار على كافة الأراضي اللبنانية.
لماذا يلجأ اللبناني الى الإنتحار؟
"لم أعدّ أتحمل، الأعباء أصبحت أكبر من طاقتي"، هكذا ودّع أحد المنتحرين برسالة صوتية أقاربه وأصدقاءه التي ذكر خلالها أن سبب الإنتحار هو الوضع المعيشي وأنه لم يعد يستطيع تأمين قوت أولاده.
وقد تكررت الأسباب ذاتها بكل حوادث الإنتحار بحسب الرسائل التي تركتها الحالات الأخرى.
وفي حديث لموقع "وردنا"، كشفت الباحثة في علم الإجتماع أنطوانيت حبيب "أننا لا نمتلك حتى اللحظة دراسة ميدانية اجتماعية دقيقة تتناول هذا الموضوع في لبنان وتدرس الأسباب التي أودت بهؤلاء الى الإنتحار. ولكن ما نملكه هو الرسائل التي تركوها وحسب ومضمونها الذي يشير الى أن السبب الأساسي هو الوضع والعبء الاقتصادي".
ورأت حبيب أن هؤلاء وصلوا الى حالة من اليأس إنهارت معها دفاعاتهم بسبب الهموم الإقتصادية والمالية ولم يعودوا قادرين على الإستمرار.
وأضافت "الشعب اللبناني بشكل عام يحب الحياة ولكن حياته أصبحت محكومة بالعامل الإقتصادي"، واستطردت قائلةً إن "المواطن أصبح يخشى "يضوي الضو"، في ناس مش قادرة تودي ولادها عالمدارس ولا تمتلك خبزا في بيوتها".
وتشير حالات الإنتحار المسجلة إلى أن معظم هذه الحالات تعود إلى الرجال، وتعتبر الباحثة الإجتماعية أن السبب هو الهمّ المعيشي الذي يرمي بثقله على هؤلاء.
غياب التنظيم الإجتماعي وعدم الإستقرار الإقتصادي وضع المواطن اللبناني في حالة "ضياع"، وبالنسبة لحبيب فإن "اللبناني يعاني ولكنه بالرغم من الأزمة والفقر المستجد مازال يحاول جاهدًا الإستمرار".
وعما إذا كانت ستؤثر هذه الظاهرة على المجتمع اللبناني، فأجابت حبيب: "تؤثر عند وصول عدّاد الضحايا الى المئات، ولكن هذا لا يعني أنه بامكاننا تجاهل هذا الأمر وعدم إعطائه الأهمية اللازمة والإستخفاف به".
أكثر من "صدمة" إقتصادية...
أما بالنسبة للدكتور إبراهيم سليمان أخصائي دماغ وأعصاب ومدرب حياة، فإن ما يحصل في لبنان من حالات إنتحار ليس مجرّد "صدمة" إقتصادية بل أكثر من ذلك، فاعتبر في حديث لموقع "وردنا" أننا نعيش في نظام "المجهول" من بعد أن عيشونا في نظام "الصدمة".
ورأى أن المنتحر يعاني من "خلل عقلي، وهذا لا يعني أن لديه "إعاقة" نفسية، ولكنه يعاني من الإكتئاب أو إضطرابات ما بعد الصدمة أو نوبات هلع... ووصل إلى مرحلة ليس على قدر المسؤولية الواقعة على عاتقه لذلك لجأ الى الهروب بدل مواجهة الواقع عن طريق الإنتحار".
وقال: "من تدهور الوضع الإقتصادي والمالي وصولًا الى إنفجار بيروت تكاملًا مع الزلزال مؤخرًا، المواطن اللبناني يعيش حالة من "الصدمة" أو لـ"Trauma"، ولكن إذا كان مستوى الوعي لديه عالٍ ولديه تقبل إيجابي للموضوع وشجاعة للإستمرار في هذه الحياة وعدم الإستسلام يمكنه أن يتخطى هذه الحالة"، مضيفًا "شئنا أم أبينا كلّ الشعب اللبناني أصبح يعاني من الضعف النفسي وإنخفاض في مستوى الذكاء العاطفي لديه".
143 المتوسط السنوي لحوادث الإنتحار
وأعطت حالات الإنتحار المسجلة مؤخرًا في لبنان انطباعًا بإرتفاع هذه الحوادث مقارنة بالفترة السّابقة. ولكن بحسب "الدولية للمعلومات" فإن الأرقام تفيد عكس ذلك، إذ تراجعت حوادث الإنتحار خلال العام 2022 مقارنة بالعام 2021.
ووصل متوسّط حوادث الإنتحار سنويًّا خلال الأعوام 2013- 2022 إلى 143 حادثة، والعدد الأكبر سجّل في العام 2019 إذ بلغ 172 حادثة، أمّا العدد الأدنى فهو 111 حادثة سجّلت في العام 2013.
ويعاني لبنان خلال السنوات الثلاث الأخيرة من تفكك في النظام الإقتصادي والسياسي أدى الى إنهيار في الخدمات العامة ونزيف في النظام المصرفي. وتتحمل الفئة الفقيرة العبء الأكبر للأزمة التي عرضت الإستقرار والسلم الإجتماعي في لبنان إلى الخطر.