في خطوة مثيرة للجدل، أحيى مناصرو "حزب الله" مساء الخميس في العاصمة بيروت، الذكرى الأولى لاغتيال الأمينين العامين السابقين للحزب، السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، بالقرب من صخرة الروشة، أحد أبرز المعالم الطبيعية السياحية في لبنان.
تجمعت الحشود في المكان، ورفرفت الأعلام الصفراء والخضراء عالياً، وسط الهتافات ورفع الصور، في مشهد لم يخلُ من رمزية سياسية عميقة. لكن هذه الذكرى التي أرادها المناصرون عاطفية ووفائية، قوبلت برفض قاطع من الحكومة اللبنانية التي اعترضت بشدة على محاولة عرض صور القائدين على الصخرة، معتبرة أن ما حدث يمثل تحدياً مباشراً لسلطة الدولة.
هذا الحدث لم يمرّ مرور الكرام، إذ جاء ردّ رئيس الحكومة نواف سلام بتعليق كل مواعيده الرسمية اليوم الجمعة، في خطوة فسّرها البعض على أنها "اعتكاف سياسي"، بينما وصفها آخرون بأنها مجرد رسالة احتجاجية موقتة، لا ترقى لمستوى اعتكاف فعلي.
سلام لم يعتكف رسميًا.. والاعتكاف موقف سياسي لا دستوري
الخبير الدستوري سعيد مالك، يوضح عبر "وردنا" أن "الاعتكاف" ليس مصطلحاً منصوصاً عليه في الدستور اللبناني، بل هو موقف سياسي تعبيري لا يترتب عليه أي نتائج قانونية مباشرة. وهو أسلوب سبق أن لجأ إليه رؤساء حكومات سابقون مثل رشيد كرامي عام 1969، وسعد الحريري لاحقاً، بهدف تسجيل اعتراض واضح على أحداث أو قرارات اعتُبرت تجاوزاً لمؤسسات الدولة.
ويضيف مالك: "الاعتكاف لا يعني الاستقالة، ولا يؤثر على سير عمل الحكومة، التي تستمرّ بممارسة مهامها بشكل طبيعي". ويشير إلى أن مجلس النواب وحده يملك حق سحب الثقة من الحكومة، سواء اعتكف رئيسها أم لا.
وفي السياق نفسه، أكد النائب مارك ضو عبر "وردنا" أن الرئيس سلام لم يعلن عن أي اعتكاف رسمي، بل اقتصر على إلغاء مواعيده ليوم واحد فقط، في محاولة منه للضغط من أجل تفعيل دور المؤسسات. ويقول ضو: "ما حصل ليس ضغوطاً سياسية من أحد، بل هو محاولة من سلام للتأكيد أن البلد لا يُدار بالتراضي، وعلى كل مؤسسة تنفيذ قرارات السلطة التنفيذية".
ويُضيف: "المشكلة ليست في إضاءة صورة على صخرة الروشة، بل في عدم التزام بعض المؤسسات بتنفيذ أوامر الدولة، وفي حال تعذّر ذلك، يجب استبدالها بمن يستطيع تنفيذ هذه الأوامر".
من جهته، يرى الكاتب السياسي محمد علوش أن الاعتكاف، وإن لم يُعلن رسمياً، يبقى موقفاً سياسياً تصعيدياً يعبّر عن عمق الأزمة، خصوصاً إذا صدر عن رئيس الحكومة نفسه. ويؤكد أن الاستمرار في هذا الموقف من دون تجاوب أو حلول، قد يؤدي إلى تحوّله إلى شبه استقالة فعلية.
أما عن احتمال استقالة سلام، فبحسب أوساط قريبة منه، هو احتمال وارد، خصوصاً إذا لم يتم فتح باب حوار جدي أو لم تُمارس ضغوط حقيقية عليه للتراجع. ومع ذلك، يرى علوش في حديثه لـ"وردنا" أن الأمور ما زالت بعيدة عن الاستقالة الفعلية، لافتاً إلى أن الحكومة الحالية لها ارتباطات خارجية تجعل إسقاطها قراراً معقّداً يتعدى حدود الداخل اللبناني.
هل تُنذر الخطوة بتصدع حكومي؟ وما خلفيات ما حصل في الروشة؟
الكاتب والمحلل السياسي وجدي العريضي يؤكد عبر "وردنا" أن ما يُتداول عن اعتكاف سلام غير دقيق، وأن رئيس الحكومة لا يزال مصمماً على أداء مهامه، ويتمسك بالبيان الوزاري واتفاق الطائف وتنفيذ القوانين.
ويرى العريضي أن ما جرى في صخرة الروشة هو انتهاك واضح للقانون وللسلم الأهلي، ويمثل تحدياً مباشراً للحكومة والدولة من قبل "حزب الله". ويتساءل: "لماذا لم يُحيِ الحزب الذكرى في موقع سقوط القادة؟ ولماذا اختار الروشة تحديداً، وهي منطقة ذات رمزية وطنية؟"، ليجيب: "لإرسال رسالة تحدي واستعراض قوة".
ويشير إلى أن الخطوة ستهدد التوازن داخل الحكومة، خصوصاً أنها تعكس حجم الانقسام بين مكوناتها، لا سيما بين "الثنائي الشيعي" وباقي الأفرقاء. ويضيف أن "ما حصل هو جزء من مسار تصادمي قد يؤدي إلى سجالات طائفية ومذهبية غير مسبوقة".
وفي ظل وضع اقتصادي مأزوم، غياب شبه تام للمصارف والقوانين، ومع استمرار التصعيد مع إسرائيل، يرى العريضي أن لبنان يدخل في مرحلة شديدة التعقيد، قد تحمل في طيّاتها تصعيدات أمنية وسياسية، في وقت لا تلوح فيه أي حلول قريبة.
ويختم العريضي بالتذكير بأن سلام لطالما كان حازماً في مواقفه، حتى في محطات سابقة كمطالبته بمحاكمة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أمام المحكمة العدلية الدولية. ويعتبر أن ما قام به اليوم ليس إلا موقفاً سياسياً احتجاجياً واضحاً، لا يُعدّ استقالة ولا اعتكافاً رسمياً، بل صرخة للقول إن الدولة يجب أن تحكم بالقانون، لا بالتوازنات الهشة.
تصعيد سياسي أم بداية أزمة حكومية؟
ما بين رفض رسمي لما حدث في الروشة، ومواقف احتجاجية من رئيس الحكومة، واتهامات بتجاوزات من قبل "حزب الله"، يطفو على السطح خلاف كبير في الرؤية والتطبيق داخل السلطة اللبنانية. ورغم تأكيد الجهات الرسمية أن نواف سلام لم يعتكف بشكل رسمي، إلا أن ما جرى يعكس أزمة أعمق في مفهوم الدولة وموقع القرار فيها.
البلد اليوم على حافة مأزق جديد: إما أن تنجح القوى السياسية في احتواء هذا التصعيد عبر حوار وحلول، أو ينزلق الوضع نحو أزمة حكومية حقيقية، قد تعيد لبنان إلى دائرة الشلل، في وقت هو بأمسّ الحاجة إلى التماسك الداخلي.