منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم، ظلّ ملف سكك الحديد غائباً عن سلّم أولويات الدولة، وكأن هذا القطاع الحيوي لا يعني شيئاً في حسابات الحكومات المتعاقبة. ففي بلد تتفاقم فيه أزمة السير يوماً بعد يوم، ويتعمّق فيه الانقسام بين المركز والأطراف، يبقى النقل السككي غائباً، ما يفاقم مركزية الاقتصاد في بيروت الكبرى ويحرم الأطراف من حقّها في عدالة التنقّل والتنمية.
رئيس جمعية "تران تران" كارلوس نفاع يؤكد عبر منصة "وردنا" أن القضية ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل تعكس غياب تفكير استراتيجي لدى المسؤولين، إذ لم تُبْنَ أي سياسة عامة عادلة للتنقل منذ التسعينيات، لا من قبل وزارة الأشغال والنقل، ولا مجلس الوزراء، ولا مجلس الإنماء والإعمار، ولا حتى لجنة الأشغال النيابية. التركيز اقتصر فقط على تأمين انتقال السيارات بين المناطق، فيما غابت العدالة في التنقل نحو الجامعات والمستشفيات ومراكز العمل. هذه السياسة، بحسب نفاع، ساهمت في تركّز 70% من الحركة الاقتصادية في بيروت الكبرى، الأمر الذي أدى إلى احتباس مروري دائم على مداخل العاصمة الشرقية من البقاع الشمالي والجنوبي.
ويضيف نفاع أنّ الاعتماد الكلي على السيارة منذ التسعينيات كبّد لبنان مليارات الدولارات. ففاتورة النفط السنوية بلغت في العقد الأخير نحو 4 مليارات دولار كمعدل، نتيجة غياب رؤية واضحة في قطاعي الكهرباء والنقل. كما استورد لبنان خلال السنوات العشر الماضية ما يقارب 21 مليار دولار سيارات، من دون احتساب كلفة قطع الغيار والإطارات.
أكثر من ذلك، كانت السيارة مدعومة بشكل مباشر وغير مباشر: عبر دعم أسعار المحروقات سابقاً، وعبر الضرائب التي تُنفق من خزينة الدولة – أي من أموال المواطنين – لإنشاء الطرقات والأوتوسترادات من الشمال والجنوب والبقاع إلى بيروت، ما زاد من مركزية الاقتصاد وجفّف الأطراف ورفع نسب الفقر فيها. ووفق البنك الدولي، فإن 60% من اللبنانيين اليوم تحت خط الفقر، وغالبيتهم خارج بيروت، ما يجعل مسألة عدالة التنقل أكثر خطورة وإلحاحاً.
أما عن تعاطي الحكومة الجديدة مع الملف، فيرى نفاع أنه لم يختلف عن سابقاتها. بل ذهب أبعد من ذلك، إذ استخدمت وزارة الأشغال شعار "لبنان عالسكة" – وهو شعار جمعية "تران تران" منذ العام 2005 – لمجرّد الترويج لمشاريع ترقيع الطرقات، من دون أن تدرك أنه شعار مخصص لحملة إعادة إحياء النقل المستدام القائم على سكك الحديد. بالنسبة له، هذا المشهد يختصر غياب الجدية في التعاطي مع الملف.
وحول مسألة التعديات على أملاك سكك الحديد، يوضح نفاع أنّها لا تتعدى 2.5% أو 2.6% من أصل 403 كيلومترات من العقارات التابعة للمصلحة، الممتدة من الحدود الجنوبية إلى الشمالية، ومن بيروت نحو رياق وصرغايا وصولاً إلى دمشق، ومن رياق إلى حمص. ويؤكد أنّ الغالبية الساحقة من هذه التعديات قامت بها وزارة الأشغال نفسها، وبالتالي يمكن التراجع عنها. أما الحديث عن تعويضات أو تسويات فهو مرفوض، لأن ملكية السكك تعتبر عقاراً استراتيجياً غير قابل للبيع أو الإيجار أو تغيير وجهة الاستعمال، وأي تعدٍّ عليها يُعد جرماً جزائياً يحال إلى القضاء. ويشدد نفاع على أن الضغوط السياسية والمصالح الانتخابية لبعض النواب هي التي تدفع في اتجاه شرعنة هذه المخالفات، وهو أمر يرفضه المجتمع المدني رفضاً قاطعاً.
وعن مشروع توسعة أوتوستراد جونية الذي تنوي الحكومة تنفيذه الشهر المقبل، يعتبر نفاع أنّ إزالة التعديات أمر ضروري أينما كان، لكن معالجة أزمة السير عبر توسيع الطرقات أثبتت فشلها، كما حصل في توسعة أوتوستراد جل الديب. لذلك يدعو إلى اعتماد نهج جديد يقوم على نقل الناس لا السيارات، عبر سياسات عامة مستدامة، أساسها النقل المشترك والسكك الحديدية.
أما المشاريع التي يجري الحديث عنها راهناً، سواء خطوط عبر البحر أو ربط البقاع ببيروت أو خطوط داخل العاصمة، فيراها نفاع مجرد "شعبويات انتخابية" تتكرر في كل استحقاق، خصوصاً مع استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج فيديوهات ترويجية لقطارات وهمية، في محاولة لإقناع الناس بمشاريع غير قابلة للتنفيذ بمعظمها.
ويختم نفاع بالتأكيد أن أي مشروع جدي لإعادة إحياء سكك الحديد يحتاج أولاً إلى إصلاحات حقيقية في القطاع المصرفي، تقوم على الشفافية والسياسة النقدية الواضحة المرتبطة بالاقتصاد الفعلي، بما يؤسس لمرحلة إصلاح شاملة. حينها فقط يمكن أن يكون للنقل السككي موقع مركزي في سياسة عادلة للتنقل، تشكّل العمود الفقري لنهوض اقتصادي واجتماعي وبيئي متكامل.