في ظلّ عاصفة الأزمات الاقتصادية العالمية التي تهزّ أركان الأسواق، يبرز الذهب كقارب النجاة الأخير للدول والأفراد. وفي لبنان، تتحول هذه الظاهرة العالمية إلى قصة استثنائية تتداخل فيها الحاجة إلى الملاذ الآمن مع واقع السوق السوداء. حيث يشهد السوق المحلي تهافتاً غير مسبوق على المعدن الأصفر، فيما تتهاوى الفوارق بين الأسعار المحلية والعالمية. إنها رحلة الذهب من كونه استثماراً آمناً إلى شاهد على أزمة اقتصادية تدفع بالمواطن اللبناني إلى حافة المجهول.
كشف رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات في لبنان نعيم رزق لـ"وردنا"، عن أن احتياطي لبنان من الذهب يقدر بـ 9.220 مليون أونصة، ارتفعت قيمتها من 11 مليار دولار قبل خمس سنوات إلى أكثر من 37 مليار دولار حالياً، مع تجاوز سعر الأونصة حاجز 4100 دولار، مؤكداً أن "المعدن الأصفر يثبت يوماً بعد يوم أنه الملاذ الآمن لكل الأفراد والمصارف المركزية والدول حول العالم"، متوقعاً أن يتخطى سعر الأونصة حاجز 4500 دولار على المدى الطويل.
وأرجع رزق توقعاته بارتفاع الذهب إلى عدة عوامل متشابكة تعكس حالة عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي:
-استمرار الحروب التجارية بين أميركا والصين
-تراجع الثقة بالدولار مع تجاوز المديونية الأميركية 37 تريليون دولار
-استمرار الحرب الروسية الأوكرانية
-شراء المصارف المركزية لكميات كبيرة من الذهب (70-75 طن خلال 10 أشهر)
-توقع خفض الفائدة على الدولار قبل نهاية العام
رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات في لبنان نعيم رزق
الطلب المحلي والعالمي: دوامة متصاعدة
أشار رزق إلى أن "الطلب القوي يأتي من المواطن في كل دولة"، مع ارتفاع عمليات الشراء من المغتربين اللبنانيين بسبب "الثقة بالعيارات السلمية والمراقبة على المحلات". كما لفت إلى ارتفاع عمولة الأونصة الوطنية من 15-20 دولاراً إلى أكثر من 40 دولاراً، والسويسرية من 40-50 دولاراً إلى 100 دولار، في مؤشر واضح على ارتفاع حدة الطلب.
لم يعد الطلب على الذهب في لبنان محصوراً بالاستهلاك المحلي فقط، بل دخل على الخط عامل تركي غيّر المعادلة برمتها. ففي تركيا، يشتري الكثير من التجار أونصة الذهب بأكثر من سعرها العالمي بـ370 دولاراً، ويؤكد أكثر من تاجر لبناني بأنه يبيع أونصات الذهب إلى تركيا بما يفوق السعر العالمي بنحو 370 دولاراً، أي بأكثر من 4300 دولار للأونصة مع احتمال ارتفاعها في الفترة المقبلة.
وقع شح المعروض لأونصات الذهب والفضة في السوق اللبنانية فعلياً، فبات الزبائن ومعهم التجار من غير المصنعين يطلبون الطلبية ويقومون بسداد مبلغ مالي كعربون. فتوضع أسماؤهم على لائحة الانتظار لمدة تراوح بين أسبوع و10 أيام ريثما تتم تلبية طلبهم بتأمين أونصات الذهب، فيما تصل مدة الانتظار لتسلم أونصات الفضة أو كيلو الفضة إلى أكثر من أسبوعين.
انقلاب الموازين: الوطنية تتخطى السويسرية
وفي السياق، شهدت أسواق الذهب في لبنان ظاهرة غير مسبوقة، حيث فاق سعر الأونصة لبنانية الصنع سعر السويسرية للمرة الأولى. تُباع اليوم الأونصة اللبنانية بما لا يقل عن 4070 دولاراً وتصل لدى البعض إلى 4100 دولار، علماً أن سعرها يجب أن يقل عن سعر السويسرية بنحو 40 إلى 50 دولاراً. بينما يبلغ سعر الأونصة السويسرية اليوم عالمياً 4017 دولاراً.
ويعيد تفاوت الأسعار في أونصات الذهب اليوم إلى زمن السوق السوداء للدولار في بدايات الأزمة في لبنان، علماً أن للذهب بورصة عالمية لا يجوز تخطي أسعارها إلا ضمن هامش ربح معين. لكن الواقع يشير إلى أن لبنان يسير على خُطى تركيا في هذا المجال، إذ يشهد إقبالاً غير مسبوق على شراء الذهب، في ظل انخفاض المعروض ما يجعل من السوق السوداء واقعاً ملموساً يلوح في الأفق.
تجسّد أزمة الذهب في لبنان، حالة القلق العميق التي يعيشها اللبنانيون تجاه مستقبلهم الاقتصادي. تصريحات نعيم رزق تكشف عن قناعة راسخة بدور الذهب كملاذ آمن، لكنها تثير في الوقت نفسه تساؤلات مصيرية حول تحول هذا الملاذ إلى سوق سوداء تكرّس الأزمة بدلاً من حلها. الذهب الذي كان ملاذاً للأمان في زمن الأزمات، يتحول في لبنان إلى مؤشر على عمق الأزمة واتساع هوة عدم الاستقرار. وفي ظلّ استمرار العوامل العالمية المحفزة لارتفاع أسعار الذهب، يبدو أن المشهد في لبنان مقبل على مزيد من التعقيد، حيث تلتقي الحاجة إلى الملاذ الآمن مع واقع اقتصادي منهك، في معادلة صعبة تضع اللبنانيين أمام تحدٍ وجودي جديد.