مقالات

خاص "وردنا"- زيارة الوفد السوري إلى لبنان بعد سقوط النظام: ترسيم الحدود كورقة ضغط لإنهاء طريق السلاح أم ولادة علاقة جديدة؟

خاص

لم تكن زيارة الوفد السوري إلى بيروت حدثاً عادياً، بل محطة سياسية كبرى تعكس حقيقة المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا بعد سقوط النظام السابق، وتعيد فتح ملف العلاقة المعقّدة بين البلدين: هل نحن أمام ولادة شراكة متوازنة أم محاولة لإعادة النفوذ بأسلوب مختلف؟

في الشكل، تمّ تسويق الزيارة بشعارات “فتح صفحة جديدة” و“تنسيق بين دولتين”، لكن وفق مصادر مواكبة للمباحثات، أداء الوفد كشف أن الذهنية القديمة لا تزال حاضرة. الضباط السوريون تحدثوا بتعالي واضح وكأنهم لا يزالون ضباط النظام السابق. التغيير الإيديولوجي لم يتحوّل إلى سلوك سياسي جديد، بل بقيت نظرة الفوقية تجاه لبنان راسخة في طريقة التخاطب واتخاذ المواقف.

الملف الأول الذي طُرح كان ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية. الوفد لم يتعاطَ معه كملف قضائي، بل قدّمه كحق سياسي لسوريا بالتدخل. وفق مصادر مطلعة، الضباط السوريون لم يميزوا بين من ارتكب جرائم خطيرة أو إرهابية و بين من لم يشارك بقتال، بل اعتبروا أن جميع الإسلاميين الموقوفين هم “مساجين فكر”. الأخطر أن بعض أعضاء الوفد تحدثوا بصيغة “نحن ندافع عن المسلمين المعتقلين في لبنان”، ما يعني أن الهدف ليس العدالة بل فرض نفوذ على القضاء اللبناني بغطاء إنساني. بهذه المقاربة، تحوّل الملف من قضية قانونية داخلية إلى ورقة ضغط تستخدمها دمشق لاستعادة موقع داخل المؤسسات اللبنانية.

ويتعمّق المشهد مع تفاصيل كاشفة لطبيعة الوفد. حين سُئل أحد الضباط عن خلفيته العسكرية، أجاب بأنه “تخرّج من إدلب”، ما يعكس تركيبة الوفد: مسؤولون تدربوا في بيئة المنظمات الإسلامية، لكنهم يحتفظون في الوقت نفسه بذهنية أسدية في التعامل. بعضهم خدم سابقاً في الجيش السوري وربما شارك في معارك القلمون وعرسال. هذا المزيج يجعل الاعتراف بالندية تجاه لبنان أمراً بالغ الصعوبة، فالعقلية العميقة للسوريين تجاه لبنان لن تتغير بسهولة مهما تبدّل شكل الحكم.

أما الملف الأخطر فهو ترسيم الحدود البرية. ظاهرياً الهدف ضبط التهريب، لكن في العمق، الترسيم يُستخدم إقليمياً ودولياً كوسيلة ضغط لإنهاء طريق السلاح نحو حزب الله. الجميع يعلم أن الحدود السورية – اللبنانية كانت على مدى عقود الشريان اللوجستي للمقاومة. اليوم، هناك مسعى دولي وعربي لفرض ترسيم رسمي بإشراف دولي بهدف قطع هذا الممر. الترسيم لم يعد ملفاً تقنياً بل جزءاً من خطة أوسع لمحاصرة الحزب وتجفيف قوته الاستراتيجية. دمشق تُظهر استعداداً للنقاش، لكن من زاوية مصالحها ومقايضاتها، لا من منطلق احترام سيادة لبنان.

الملف الثالث هو الاتفاقيات القضائية والأمنية الجديدة. الوفد السوري اقترح “تحديث الاتفاقيات القديمة لتناسب الدولة السورية الجديدة”، لكن خلف هذا الطرح محاولة للعودة إلى الداخل اللبناني من بوابة المؤسسات. التعاون القضائي وتسليم المطلوبين وتبادل المعلومات قد يبدو أمراً طبيعياً، لكنه قد يتحول إلى نفوذ شرعي يصعب الاعتراض عليه لاحقاً لأنه سيكون “مبرمجاً” في الاتفاقيات الرسمية. أي أننا قد نشهد عودة النفوذ السوري بشكل ناعم وقانوني، لا أمني خشن كما في السابق.

في الداخل اللبناني، المواقف منقسمة. هناك من يرى في انفتاح سوريا فرصة لتنظيم العلاقات وضبط الحدود وإعادة النازحين ومعالجة الملفات المعلقة. وهناك من يخشى أن تكون هذه الزيارة بداية إعادة التموضع السوري في لبنان بدعم إقليمي ودولي، تزامناً مع ضغوط على حزب الله. وهناك من يدرك أن ما يجري ليس قراراً ثنائياً بين بيروت ودمشق، بل جزء من صفقة إقليمية كبرى تُطبخ في غرف القرار بين واشنطن وطهران والرياض وباريس.

في هذا السياق، يبرز سؤال أعمق: هل يدرك حزب الله الثمن الذي تدفعه الدولة اللبنانية نتيجة تمسكه بسلاحه؟ سلاح الحزب فتح الباب أمام إسرائيل لاستباحة السيادة، وأفقد الدولة قدرتها على فرض هيبتها، وجعل سوريا الجديدة تتعامل مع لبنان باستخفاف وعدم احترام. فحين تمتلك قوة داخلية قرار الحرب والسلم، تُضعف الدولة أمام الخارج وتمنح الآخرين حق التدخل والتجاوز.

التاريخ يقدم نموذجاً لما يجب أن تكون عليه العلاقة. في لقاء فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر ، رئيس الجمهورية المتحدة مصر و سوريا، على خط الحدود، جلس كل منهما على كرسي في أرض بلده. كان ذلك اعترافاً كاملاً بسيادة لبنان. اليوم، هل تستطيع سوريا الجديدة أن تحترم لبنان كما فعل عبد الناصر؟ وهل يملك لبنان قيادة بحجم شهاب تفرض الندية؟ وهل يدرك حزب الله أنه بسلاحه يحرم لبنان من هذه الندية ويمنح الخارج حق الوصاية؟

في المحصلة، زيارة الوفد السوري لم تكشف فقط عن ملفات خلافية، بل عن السؤال الجوهري: هل تتجه العلاقة إلى شراكة سيادية حقيقية، أم إلى نفوذ مغلف بالتعاون؟ هل سيُستخدم ترسيم الحدود لحماية الدولة أم لقطع طريق السلاح ومحاصرة حزب الله؟ وهل ما جرى هو بداية مصالحة… أم بداية صيغة إقليمية جديدة تُكتب على حدود لبنان فيما القرار يُصنع في الخارج؟

يقرأون الآن