٨٦ مليار دولار: الحقيقة التي يريدون دفنها

في بلدٍ أنهكه الإفلاس، تتردّد أرقام كالرصاص في ساحة الحقيقة: ٨٦ مليار دولار، ٦٨ مليار دولار، ٩٣ ملياراً…

وكلّها تدور حول السؤال ذاته: أين ذهبت أموال المودعين؟

منذ أكثر من عقد، كان اللبنانيون يضعون جنى عمرهم في مصارف تعدهم بالأمان والعوائد العالية.

المصارف بدورها أودعت تلك الأموال لدى مصرف لبنان الذي كان يغريها بفوائد مرتفعة عبر ما سُمّي لاحقاً "الهندسات المالية".

بدا كلّ شيءٍ وكأنه نموذج نجاح لبناني فريد، إلى أن انفجرت الفقاعة عام ٢٠١٩، فسقط القناع وبقيت الأرقام وحدها شاهدة على الخديعة.

ما حقيقة الـ٨٦ مليار دولار؟

خلافاً لما يُروَّج، الرقم ليس سحراً ولا شائعة عابرة.

تقارير اقتصادية ودولية عديدة منها تقرير The National News (نيسان ٢٠٢٥) تقدّر المبالغ التي لا يستطيع المودعون الوصول إليها حالياً بما بين ٨٦ و٩٣ مليار دولار.

وهي ليست أموالاً تبخّرت في الهواء، بل ودائع مجمّدة داخل النظام المصرفي اللبناني، خاضعة لقيود غير قانونية على السحب والتحويل.

أما الرقم ٦٨ مليار دولار الذي يُردّد منذ عام ٢٠٢١ في الخطط الحكومية، فيعود إلى تقديرات "الخسائر الصافية" في القطاع المالي، أي الفارق بين الالتزامات والأصول لدى الدولة ومصرف لبنان والمصارف.

لكن هذا الرقم، لا يعكس حجم الأموال التي تخص المودعين بشكل مباشر، بل يُستخدم لتوزيع المسؤوليات في الخطط المالية الرسمية.

بحسب أحدث تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية (آب ٢٠٢٤)، كانت المصارف التجارية تحتفظ بحوالي ٨١.٦ مليار دولار كودائع لدى مصرف لبنان.

هذا الرقم مؤكد وموثّق، ويكشف جانباً جوهرياً من الأزمة: الجزء الأكبر من أموال المودعين محجوز في حسابات المصارف لدى البنك المركزي، وليس في خزائنها.

كيف ضاعت الحقيقة بين الأرقام؟

على مدى عقد كامل، تحوّل التواطؤ المالي إلى سياسة شبه رسمية:

● مصرف لبنان كان يموّل الدولة بعجز مزمن عبر ودائع المصارف.

● المصارف كانت تجني أرباحاً طائلة من الفوائد المرتفعة.

● السياسيون كانوا يتبادلون الصمت مقابل استمرار الدورة النقدية.

نتيجة هذا التزاوج بين السلطة والمال، نشأ نظام مغلق بلا رقيب فعلي.

ثم جاءت الانفجارات الثلاثة:

١_ انهيار الليرة التي خسرت أكثر من ٩٨٪ من قيمتها خلال أربع سنوات.

٢_ تجميد الودائع عبر ما سُمّي "قيود السحب"، وهو هيركات مقنّع.

٣_ تعميمات مصرف لبنان التي بدت وكأنها تُنقذ النظام، لكنها في الواقع نظّمت خسائر المودعين.

واليوم بينما يروّج لمشاريع تقضي بشطب ٤٠٪ من الودائع، وتقسيط الباقي على مدى ٥ إلى ٢٥ سنة، يُطلب من المودع أن يدفع الثمن مرّتين: مرة عند الحجز، ومرة عند إعادة الجدولة.

من المسؤول؟

السؤال الجوهري لم يُجب عنه أحد بعد: كيف تراجعت الودائع من نحو ١٧٥ مليار دولار عام ٢٠١٨ إلى أقل من ٨٨ ملياراً عام ٢٠٢٤؟

لا يوجد تقرير رسمي شامل يوضح مسار الأموال، ولا حساب ختامي واحد صادر عن مصرف لبنان أو جمعية المصارف يمكن أن يُفسِّر الفجوة.

السلطة السياسية تتصرّف وكأن الخسائر "قدر مالي"، والمصارف ترفع شعار "الدولة مسؤولة"، فيما الدولة تُلقي باللوم على المصرف المركزي.

وهكذا تستمر الحلقة المفرغة من التنصّل المتبادل.

هناك طريق واحد للحقيقة وهي الحديث عن خطة إنقاذ بلا محاسبة هو تضليل.

الحقيقة لا تُعرف بالتصريحات، بل بالتدقيق الجنائي الشامل في حسابات مصرف لبنان والمصارف التجارية معاً، لا في جانب واحد فقط.

أي جهة ترفض التدقيق، أو تؤجّله، أو تشترط تحديد نطاقه، إنما تهرب من الحقيقة وتتستّر على السارقين.

من دون هذا التدقيق، لن يُعاد أي ثقة، ولن تُعاد أي ودائع.

فلا يمكن إصلاح نظام مالي قائم على الغموض والمحاباة بقرارات شكلية.

في النهاية، تبدو الصورة أكثر من أزمة مصرفية.

إنها جريمة اقتصادية موصوفة شاركت فيها أطراف سياسية ومصرفية معاً.

وإذا لم يتحقق التدقيق والمحاسبة، سيبقى لبنان دولة العصابات.

عصابات تتقن سرقة المودعين أكثر مما تتقن إدارة الدولة.

يقرأون الآن