أن يؤكّد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان عزمهما على العمل معًا للمساعدة في إخراج لبنان من الأزمة العميقة التي يمرّ بها، ليس كلامًا عابرًا، بل بالتأكيد له ما يكمّله على أرض الواقع إنْ عاجلاً أو آجلاً... هذا ما يقوله المتفائلون بالحراك الخارجي لأجل لبنان.
ويقولون ايضًا انّ ما صدر عن ماكرون وبن سلمان رسالة ليست عادية، بل هي جديّة جدّاً أرسلت بالبريد الفرنسي السّعودي السّريع الى الداخل اللبناني في توقيتٍ شديد الاهمية تشهد فيه المنطقة تحوّلات نوعيّة، وإطفاء توتّرات على اكثر من ساحة، تدعو اللبنانيين الى ان يلاقوا الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي في مسعاهما المتجدّد لفتح مخرج طوارىء في النفق الرئاسي المسدود، وتقديم جرعة أوكسيجين جديدة للملف الرئاسي، لعلها تنقذه من حالة الموت السريري التي دخل فيها منذ خمسة أشهر، وتؤسّس لخلاص لبنان من وضعٍ بات مثيرًا للشفقة، وإنعاش شعب قطعت الازمة لكلّ فرد منه تذكرة سفر مجانية الى جهنّم، ذهاباً بلا إياب.
هنا لا بد من لَحظ انّ هذه الرسالة التي عكسها التواصل بين ماكرون وبن سلمان، جاءت على مسافة ايام قليلة من الاجتماع الثنائي الفرنسي السعودي في باريس منتصف آذار الجاري، حيث لم يتمكّن فيه الطرفان من بلوغ قاسم مشترك بينهما حول الملف الرئاسي في لبنان. وبمعنى أوضح، ظلّ الجانبان الفرنسي والسعودي، حتى الاجتماع الثاني بينهما على طرفَي نقيض، حيث لكلّ منهما نظرة مختلفة الى الملف الرئاسي، والاجتماع الخماسي في باريس ظَهّر ذلك بوضوح، حيث انّ باريس تبنّت خلاله معادلة سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ونوّاف سلام رئيساً للحكومة، امّا الرياض فناقَضت هذه المعادلة بشكل قاطع. وكررت نقضها لهذه المعادلة في اللقاء الاخير بينهما قبل ايام قليلة في باريس، وانفضّ الإجتماع من دون ان يتمكن أي طرف من أن يجذب الآخر الى موقفه. وبالتالي لم يحسما التناقض فيما بينهما.
هنا لا بد من سؤال من شقين، الأوّل: على ايّ أساس سينطلق المسعى السعودي الفرنسي، وكيف يمكن ان يساعد على حسم الملف الرئاسي؟ والثاني: هل انّ الجانبين الفرنسي والسعودي متيقنان من أنّ في استطاعتهما ان يخرقا جدار التعطيل الداخلي بمخرج يُفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية؟
بالنسبة الى ما خص الشق الاول، ثمة احتمالات اربعة:
- الاول، ان ينطلق المسعى الفرنسي السعودي ارتكازاً على انقلاب في الموقف السعودي، والاقتراب من الموقف الفرنسي المتبنّي لمعادلة فرنجية - سلام. ولكن هل ثمة من يعتقد ان السعودية في هذا الوارد؟ أمّا في الموازاة فثمّة من يتوقع عكس ذلك، ففرنسا اليوم غير فرنسا الامس، وتبعاً لذلك ليس مستبعداً ابداً ان تنتمي فرنسا الى الموقف السعودي وليس العكس.
- الثاني، ان ينطلق هذا المسعى ارتكازاً على تخلّي باريس عن معادلة فرنجية - سلام، وتبنّيها الموقف السعودي، وهذا يعني الذهاب الى خيارات رئاسية اخرى تحظى ببركة المملكة وتأييدها. ولكن هل السعودية هي اللاعب الوحيد على الحلبة الرئاسية لكي تفرض المرشح الذي تراه مناسباً لرئاسة الجمهورية، والامر نفسه ينطبق على فرنسا؟
- الثالث، ان ينطلق المسعى الفرنسي السعودي المنتظر، من قناعة مشتركة باستحالة تمرير بعض الاسماء، ما يعني انّ المخرج الملائم يكون بفتح الباب امام خيارات رئاسية اخرى، بمعنى أدق، فتح باب التنافس بين المرشحين، وليَفز منهم من ينال اكثرية الفوز المطلوبة. ولكن إن صحّ ذلك، كيف ستسوَّقُ هذه «الخيارات الاخرى» في الداخل، خصوصاً مع من حدّدوا سلفاً مرشّحيهم النهائيّين لرئاسة الجمهورية، او مع من يعتبرون أنفسهم أسياد الساحة المارونية واصحاب الكلمة الاولى والاخيرة في تحديد هوية وشكل ومواصفات وبرنامج ونوع رئيس الجمهورية؟
- الرابع، ان ينطلق المسعى السعودي الفرنسي على قاعدة الاعتراف بأنّ اي حراك خارجي لا يمكن ان ينجح في فَرض رئيس على اللبنانين، او حتى إلزامهم بالتوافق على رئيس. وهذا يعني إكمال المسار نفسه الذي سَلكه الجانبان من البداية؛ اي تقديم المساعدة المعنوية من بعيد، عبر الإستمرار في تحميس اللبنانيين وحثّهم والتمنّي عليهم حسم استحقاقهم الدستوري وانتخاب رئيسهم.
قد يبدو ممّا تقدّم انّ الاحتمال الرابع، اي المساعدة بالحثّ والتمنّي من بعيد، هو الاحتمال الأقرب مدى من غيره الى ارض الواقع.
امّا بالنسبة الى ما يتعلق بما اذا كانت السعودية وفرنسا قادرتين على كسر التعطيل الداخلي بحلّ رئاسي؟ فما من شكّ انّ إعلان ماكرون وبن سلمان عزمهما على المساعدة، أسعَد كثيرين في لبنان واستبشروا خيراً وافترضوا انّ الحل الرئاسي يلوح في الافق القريب، وانّ انتخاب رئيس الجمهورية صار على مسافة رَشقة حجر.
ولكن في موازاة هذا الاستبشار ثمّة واقع ينبغي التمَعّن فيه قبل التسرّع في استسهال المسعى المنتظر من الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، وصياغة فرضيات تُحاكي التمنيات، وتتجاوز بل تناقض ما هو قائم من تعقيدات على ارض الواقع.
على مستوى الداخل، قد تصحّ فرضية انّ الرسالة تطلب الى أحزاب وتيارات التعطيل الرئاسي أن تواكب هذه الاندفاعة بالتقاط الفرصة الفرنسية السعودية المتجددة، وتحضير الارضية الملائمة للتفاعل الايجابي مع المسعى المشترك. الا انّ هذه الرسالة على أهميتها وضرورتها، سقطت على واقع لبناني ينسف سلفاً ايّ حراك او جهد خارجيء. فهذا المسعى او الجهد لا يتمتع اصلاً بصفة الالزام، فضلاً عن انّ احزاب وتيارات التعطيل ثبتت في الداخل أرضية غير قابلة للكسر، محكومة فقط لعقول شيطانية، وكذلك لحسابات المدمرة لا يبدو أيّ من اصحابها على استعداد لأن يتخلى عنها، بل يحصّنها على مدار الساعة بخطاب سياسي انحدر الى أدنى مستوياته، وينضح بكلّ ما يُباعد بين مكونات الداخل، ويعمّق الشرخ في البلد، ويجعل بالتالي من انتخاب رئيس الجمهورية سراباً وهدفاً يستحيل بلوغه.
تبعاً لذلك، هل من عاقل يستطيع أن يقدّر او يفترض، او يعتقد أنّ في إمكان ايّ مسعى خارجي، سواء أكان من الاصدقاء او الاشقاء ومهما كان شكله، او حجمه، أو إيجابياته المفترضة، أن يسري هكذا بسهولة، في هشيم أحزاب وتيّارات متوحّشة تنتمي الى الخارج أكثر مما تنتمي الى وطنها، أحزاب وتيارات احترفت التطبيل للخارج والتعطيل في الداخل، وقدمت النموذج الأسوأ على وجه الكرة الارضية، في المزايدة والحقد وتضييع الفرص، ولو قُيّض لها ان تملك قوة ذاتية او مستعارة، فلن تتوانى حتى عن أن تفترس نفسها او بعضها البعض؟
خلاصة الامر انّ تعقيدات الداخل أقوى من إمكانات الخارج وقدراته على فرض حلول، وبالتالي فإنّ الملف الرئاسي سيبقى قابعاً في بازار التعطيل في انتظار معجزة لن تحصل.