سواءُ بقيت حرب غزة في إطارها الجغرافي المحدود، أو توسعت إلى جبهات أخرى، وأبرزها جبهة لبنان، فإن نتيجتها المحسوبة ستبقى واحدة في الحالَين:
تحجيم طرفَي الصراع، إسرائيل والمنظمات الفلسطينية، بفعل إنهاكهما ميدانياً، نفسياً ومادياً، كي يسهل ترويضهما على نهج السلام.
الواضح أن إسرائيل، بعد هذه الحرب، لن تخرج بجبروتها السابق ومشاريعها التوسعية، وبرفضها الحلول المطروحة على قاعدة المبادرة العربية للسلام (بيروت ٢٠٠٢)، حتى لو انتصرت عسكرياً في الحرب بالدعم الأميركي العالمي.
إن أمراً استراتيجياً مهماً انكسر في إسرائيل، عسكرياً وسياسياً، ولم يعد في الإمكان ترميمه، بحيث تقلّصت كثيراً قدرتها على الرفض، في كل توليفاتها الحكومية، متطرفة كانت أو معتدلة أو حكومة طوارئ ووحدة وطنية.
ولا يمكن استبعاد الحنكة الأميركية في استغلال ترويضها بهدف تسييل اقتراحات التسوية، وتمرير أسس الحل، تحت شعار "ربّ ضارّةٍ نافعة" في اجتياح مستوطنات الغلاف.
وربما كانت واشنطن مغتبطة في سرها للصفعة التي تعرضت لها تل أبيب، ومرتاحة سياسياً إلى الانصياع الإسرائيلي المنتظر بعد صدمة ٧ تشرين الأول الراهن، والمطواعية المتوقعة لديها في تقبّل شروط الخروج من المأزق على طريق التطبيع والتسوية حول قيام دولة فلسطينية.
أمّا "حركة حماس" فهي محكومة بالضمور والتحجيم، بحيث تفقد عملاقيتها العسكرية الطارئة وتأثيرها السياسي المتفاقم ومصادرتها قرار الحرب، ومعها "الجهاد الإسلامي" وتشكيلات أقل أهمية، ويعود إذذاك القرار إلى الشرعية الفلسطينية في رام اللّه بعد إعادة ربطها السياسي بغزة، وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع الانخراط في التسوية الجديدة، الدائمة على الأرجح، والمنصفة للحقوق الفلسطينية.
ومع تحجيم "حماس" وغيرها من المنظمات الرافضة، ينحسر إستطراداً تأثير إيران و"حزب اللّه" والأذرع الأخرى، خصوصاً بعد تمادي ارتباك "ولاية الفقيه" في الإقدام على الحرب أو الإحجام عنها، وانكشافها أمام الفلسطينيين والعرب والعالم كأداء انتهازي إستثماري للقضية الفلسطينية، ومجرد ظاهرة صوتية وشعارات صاخبة عند احتدام المعركة، تحت ضغط الحسابات البراغماتية السجّادية، وقد تجلّى هذا التردد في لجم ردود "الحزب" برغم خسارته عشرات القتلى من عناصره في أسبوعين.
صحيح أن استشراف الصورة السياسية التي سترسو عليها الحرب لا يزال ضبابياً، ولا يمكن منذ الآن تخيّل الخرائط الجغرافية والديمغرافية بترسيماتها النهائية، لكنّ الأرجح أن تكون الحرب الدائرة هي الأخيرة، والتي يمكن وصفها ب"حرب السلام"، لأن لا أحد يحتمل إعادة إنتاج حرب جديدة بعد هدنة موقتة، كما كان يحصل في السنوات الأخيرة، لا الفلسطينيون ولا إسرائيل ولا العرب ولا إيران، وكذلك سائر العالم. فثلاثة أرباع القرن من الحروب والموت والدمار أثقلت وأرهقت كلّ الكواهل، ولا يمكن أن يستمر القتل ألف عام، كما لا يمكن الرهان على شعار إسرائيل إلغاء فلسطين، ولا على شعار "الممانعة" إزالة إسرائيل من الوجود. فالحل ينهض على ركام الشعارَين.
لقد اقتربت ساعة الوصول إلى نهاية النفق، ولو على مجاري الدماء والدموع وذاكرة المآسي.
وإذا كانت التجربة اللبنانية غير مستقرة على قاعدة: "النفيان اللذان لا يصنعان أمة" (جورج نقاش ١٠ آذار ١٩٤٩)، فلعلّ تجربة إسرائيل والفلسطينيين تنجح وتستقر على قاعدة: "التحجيمان اللذان يصنعان حلاً" أو سلاماً.
فلا يستخفّنّ أحد بلعبة التحجيم المزدوج الحاصلة راهناً، لإدخال الجمل الإسرائيلي والحصان الفلسطيني في الممر الضيق المؤدي إلى المسار المفتوح للسلام.