وسط إجماع على كونها بلا رؤية اقتصادية واجتماعية، أقرّ المجلس النيابي مشروع قانون موازنة 2024 بعد تعديلات تُعدّ طفيفة قياساً على التغييرات التي أجرتها لجنة المال والموازنة على المشروع الوارد من الحكومة. وما حصل عملياً، ليست فيه إصلاحات، ولا رؤية اقتصادية بل مجرّد إجراءات محاسبية ضمن نمط وإطار أقرّتهما الحكومات السابقة.تأتي هذه الموازنة بعد سنوات من إعداد ومناقشة وإقرار موازنات خارج مواعيدها الدستورية، إلا أن مضمونها بقي مبنياً على النمط نفسه من "بيع الأوهام" وادّعاء بأنها موازنة للتعافي بلا عجز وبأنها تستكمل توحيد سعر الصرف. ومثّل ذروة التضليل إلقاء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اللوم على النواب لعدم إقرارهم "إصلاحات" أعدّتها الحكومة أو ستعدّها.
الموازنة عبارة عن نفقات بقيمة 295113 مليار ليرة وإيرادات بقيمة موازية، أي ما يوازي 18% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة مع 31.4% في عام 2019. وتضمّنت تصحيحاً كبيراً للضرائب والرسوم رغم أن القسم الأكبر منها يصيب الفئات الأدنى قدرة في المجتمع كما في السابق. مع فارق خطير تمثّل في عدم تصحيح رواتب العاملين في القطاع العام بشكل مناسب، وسط غياب شبه تام للإنفاق الاستثماري، إذ لم تبلغ نسبته أكثر من 7% من النفقات، كما لم تلحظ الموازنة أي أمر يتعلق بكلفة الدين بالعملات الأجنبية على الخزينة، ولم ترد فيها أي بنود إصلاحية جذرية في السياسة الضريبية، بل اكتفى الجميع بالسير على خطى السياسات السابقة بما يخدم فكرة "تصفير العجز".
ردود الرئيس ميقاتي على النواب، لم تتضمّن بحسب "الأخبار" أي عبارة عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، كما لو أنه لم يؤخذ هذا الأمر في الاعتبار لهذه السنة. ويتضح الأمر أكثر في إشارته إلى أن الموازنة "تؤسّس لبدء التعافي من أثر الأزمات الخانقة التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة". لكنّ هذه الموازنة تمثّل بحسب أحد الخبراء "تعافياً لكسر كبير التحم على اعوجاجه".
بالنسبة إلى توحيد سعر الصرف، لم تقدّم الحكومة أي خطّة، مع العلم أن هناك خلافات مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري الذي اعتبر أن إقرار سعر للصرف هو من اختصاص مجلس النواب، بينما ردّ عليه رئيس لجنة المال النائب إبراهيم كنعان بالإشارة إلى أن سعر الصرف ليس من اختصاص مجلس النواب. لكنّ ميقاتي مرّر عبارة تبدو لوهلة كأنها نتيجة اتفاق في الحكومة ومع النواب، بينما هي مجرّد كلام قيل بين ميقاتي ومنصوري، وقال: "بالنسبة إلى توحيد سعر الصرف فالاتجاه هو لتجنّب التقلبات الكبيرة التي برزت خلال الفترات السابقة، ولكن ليست هناك نية لتثبيت سعر الصرف الذي دفعنا أثماناً باهظة نتيجة ربطه بشكل جامد بالدولار الأميركي".
وحول الرواتب والأجور والقطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم ومعالجة مسألة الفقر، لم يكن لدى الحكومة سوى القول من جديد: "إن هذه القطاعات في حاجة إلى أكبر نسبة من الإيرادات التي وردت في مشروع قانون النفقات الاستثمارية". لكن ما ستنفقه الخزينة على الرواتب والأجور والمخصّصات وملحقاتها يبلغ اليوم 45821 مليار ليرة أي 15.5% من النفقات مقارنة مع 42% في موازنة 2018. كان هذا البند يوازي 6.6 مليارات دولار، بينما هو اليوم يوازي 511 مليون دولار. كما أن الإنفاق على الاستشفاء والأدوية كان يبلغ 720 مليار ليرة أو ما يعادل 477 مليون دولار في عام 2018، أما اليوم فالخزينة ستنفق 22131 مليار ليرة أو ما يعادل 247 مليون دولار، أي نصف ما كانت عليه. وكانت الدولة تنفق على التعليم نحو 2067 مليار ليرة أو ما يعادل في حينه 1.37 مليار دولار، بينما ستنفق في عام 2024 نحو 14112 مليار ليرة أو ما يعادل 157 مليون دولار.