ليس في أفق الصراعات الدولية والإقليمية، على اتساع مساحات مواجهاتها، من تايوان إلى غزة وما بينهما، ومن القوقاز إلى أوكرانيا وأوروبا نزولاً إلى أفريقيا، ما يفرض حروباً كاملة ومفتوحة تنعقد مع الوقت على حرب كونية جديدة.
فلا مصالح الدول العظمى تتصادم إلى درجة الالتهاب والحسم، ولا موازين القوى الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية تتوازى أو تتساوى كي يستشعر أطرافها القدرة الكافية على كسر القطبية الأحادية النسبية السائدة إلى اليوم، وحتى إشعار آخر.
تحت هذا الواقع الدولي المتماوج، والخاضع في خلفيته، وبرغم احتداماته، للتفاهمات المصلحية، تبدو صراعات الشرق الأوسط، من باب المندب إلى جنوب لبنان وسوريا وفلسطين والعراق، مضبوطة على إيقاع التفاوض، العلني منه والسرّي، ولا تتعدّى إطار تسجيل نقاط معزولة ومتفرقة على جبهة أو أُخرى، ولو كلّفت هذه النقاط سقوط آلاف الضحايا.
ولم يعُد أي مراقب تخدعه عناوين الحسم وشعارات الانتصار وكسر الموازين وتغيير المسارات والخرائط.
فها هي إسرائيل تتلاطم بين أركان حربها، وتعاني تعثّر أهدافها في غزة، ولو حوّلتها إلى أرض محروقة، وقد باتت محكومة بتسويات وحلول واقعية وممكنة، سواء اندفعت نحو رفح أو انكفأت، وسواء تم إنعاش "هدنة رمضان" أو جرى طيّها، وسواء تغيرت الإدارة الأميركية أو استمرت، وسواء بقي نتنياهو وفريقه أو تنحّيا.
أمّا إيران فتثابر على لجم أذرعها في العراق وسوريا، ودوزنة "إشغالاتها" في الخليج والبحر الأحمر، ومراعاة الحذر على حدودها الشرقية والشمالية، وفي أجندتها السعي إلى البقاء في دفء بايدن لاتقاء صقيع ترامب، لعلّها تحافظ على حيوية ملفها النووي من جهة، ومراكز نفوذها الخارجية (العربية) من جهة ثانية.
والملاحَظ أن الذراع الإيرانية الأثيرة والثمينة في لبنان، "حزب الله"، هي الدرع العملية المتقدّمة في الجبهة الأخيرة التي تستطيع طهران تحريكها لتحصيل أي ثمن جديد، أو على الأقل حماية أي ثمن قديم.
ولكنّ استخدام هذه الذراع، بالحجم والأسلوب والمدى والفاعلية المتّبعة، وفقاً لما يحصل منذ خمسة أشهر، لم يسجّل أي إضافة نوعية أو كمّية، ولم يقدّم أي معنى ميداني أو سياسي أو استراتيجي، وكأنه مجرد تمرين فولكلوري مغمّس بدماء مئات اللبنانيين، ومغطّى بخرائب ديارهم.
لذلك، لا يستطيع أي مراقب أن يتجاهل حقيقة المأزق الذي تمّ توريط "حزب الله" في حبائله، فلا هو مغامر في الهروب إلى الأمام نحو حرب مفتوحة ستكون أشرس المواجهات وأقساها، ولا هو مبادر للانسحاب إلى الوراء نحو هزيمة موصوفة.
لذلك نراه مرتبكاً في التعامل مع أفكار الوسطاء، سواء هوكشتاين أو سواه، ومعتصماً بالصمت في معظم الأحيان تحت الشعار الجامد: أولوية وقف النار في غزة.
ولم يعُد سرّاً حصول نقاش قاسٍ داخل قيادته، بين فريق متعقّل يفضّل تسوية تبدأ بالجنوب وتنتهي في الداخل ولو بتنازلات مؤلمة، وفريق متشدّد ما زال مشبعاً بالشعارات الإلغائية السابقة، يعيش على أمجاد "تفاهم نيسان" و"إنجاز ال٢٠٠٠" و"حرب تموز"، وعلى ترجمة هذه الأمجاد في استباحة حكم لبنان.
ولم تكن بوادر الليونة التي أبدتها القيادة في المسألة السياسية الداخلية، بما فيها محاولة ترميم العلاقة وركام "التفاهم" مع الرئيس السابق ميشال عون، والاتجاه إلى إنعاش الاتصال مع بكركي، وبسط اليد نحو أطراف أخرى، سوى نتيجة تحسّسها أذى الانغلاق والتفرد في قرار الحرب والمواجهة، والوقوع بين سندان الداخل ومطرقة الجنوب. وهي باتت تدرك أن سلاحها لم يعُد فوق النقد والمساءلة، لا مع اللبنانيين ولا مع العالم، بل خرج شعبياً وسياسياً ووطنياً من إطار ذاك الشعار المرحلي الترقيعي "ربط النزاع" الذي شكّل في تطبيقه على مدى ١٥ عاماً وصفة لانهيار الدولة.
وقد بات منتظَراً أن تصدر "نصيحة" إيرانية، أو "تكليف شرعي" من المرجعية، بوجوب خفض السقوف، في الجنوب أولاً بحيث يتقبّل "الحزب" تنفيذاً غير جزئي وغير مشوّه للقرار ١٧٠١ بما ينص عليه في مجال إخلاء منطقة عمليات ال"يونيفل" والجيش اللبناني، من عناصره وسلاحه بعد وقف إطلاق النار، لقاء عودة النازحين على الجانبَين وتثبيت الحدود البرية، تمهيداً لمرحلة لاحقة يكتمل فيها تطبيقه بالقرارَين ١٥٥٩ و ١٦٨٠ اللذَين يشكّلان النسيج العميق والمتين لمندرجاته.
وفي الداخل ثانياً من خلال فك عقدة "مرشحنا ولا أحد سواه"، تسهيلاً لمبادرة "تكتل الاعتدال الوطني" المدعومة من اللجنة الخماسية العربية الدولية ومن الكتل النيابة.
طبعاً، إن من شأن هذه التسوية المزدوجة والمتوازنة بين الجنوب وبيروت أن تُعيد ترشيد وترشيق الأحجام السياسية، فتنكسر معادلة مستقوٍ ومستضعَف، وتنتظم الحياة السياسية بإعادة إنتاج السلطات الدستورية الثلاث بدءاً من رأس الدولة، ومن خارج البدَع الدستورية كالثلث المعطّل و"الثلاثية" الذائعة الصيت وحصرية بعض الحقائب والتفسيرات الخاطئة للميثاقية وحكومات "وحدة وطنية" مفخّخة.
والواضح أن إعادة تجريب هذه البدَع ستصطدم برفض واسع عابر للمناطق والطوائف، تحت طائلة التوجّه إلى صيغ حياة وطنية جديدة في حال حصلت صفقة لإحياء تلك "الأعراف" الدخيلة.
والسؤال، هل يفرض "التكليف" الإيراني المحتمل إيقاعه على قيادة "حزب الله" فيستعيد لبنان سلامه بمعزل عن مآلات حرب غزة وحل القضية الفلسطينية، أم أن لبنان لا يزال حقل تجربة ومساومات على الأثمان في الأجندة الإيرانية؟
الأكيد أن ما بعد ٨ تشرين الأول ٢٠٢٣ (انطلاق حرب الإسناد والمشاغلة) مختلف جوهرياّ عن مرحلة ما قبله من شعارات "حرب إزالة وجود" و"انتصارات إلهية" ومهمّات تاريخية ل"فيالق القدس".
والكلمة الآن للبراغماتية السجّادية العجمية، في تقاطعها مع المصالح الأميركية.