عادت اندفاعة صندوق النقد الدولي باتجاه لبنان الى زخمها، بعد فترة من الركود فرضتها مرحلة ما بعد الاتفاق على مستوى الموظفين، والتي كانت تقضي بانتظار الدولة اللبنانية لكي تنفّذ الإجراءات المطلوبة للانتقال الى عقد الاتفاق النهائي. كما ساهمت في برودة التحّركات، حرب غزة التي فرضت اخلاء مكتب صندوق النقد في بيروت وفق ما ورد في "الجمهورية".
رغم انّ فريق العمل في مكتب صندوق النقد الدولي الاقليمي في بيروت لم يرجع الى لبنان بعد، منذ الإخلاء القسري الذي جرى عقب بدء حرب 7 تشرين الاول، الاّ انّ حرارة التواصل ارتفعت، وتكثّف النشاط في الفترة الأخيرة، ربما اكثر مما كان عليه في السابق. ولوحظ في الاسابيع الاخيرة تكثيفٌ استثنائي للاتصالات مع جهات لبنانية، بهدف البحث عن حلول تتيح تجاوز العقبات التي حالت حتى الآن دون إقرار خطة للتعافي، تسمح بحصول لبنان على خط تمويل من صندوق النقد، بالإضافة الى رزم تمويل من دول حول العالم، تنتظر الانتظام المالي لكي تقدّم الدعم.
في خلفيات هذا النشاط الاستثنائي الذي اصاب فريق عمل صندوق النقد المهتم بالملف اللبناني، مجموعة من الاسباب والخلفيات، من أبرزها ما يلي:
اولاً- تشجيع اميركي مستجد لإدارة الصندوق لكي تبذل المزيد من الجهود للوصول الى حلحلة العِقَد تمهيداً لانجاز الاتفاق مع لبنان.
ثانياً- الوصول الى قناعة مفادها انّ انتظار السلطة اللبنانية لتنفيذ ما هو مطلوب منها من اجراءات واصلاحات لعقد اتفاق تمويل مع الصندوق لن يجدي نفعاً. وبالتالي، لا بدّ من تقديم المساعدة في هذا المجال ايضاً، لتسهيل اتفاق القوى اللبنانية على تنفيذ ما هو مطلوب.
ثالثاً- حرب غزة وإفرازاتها تبدو طويلة، وبالتالي، لا بدّ من العمل في معزل عن تطورات هذه الحرب، والتخلّي عن فكرة انتظار انتهاء الحرب لمعاودة النشاط الطبيعي.
انطلاقاً من هذه الخلفيات، عاد النشاط والزخم الى حركة صندوق النقد في لبنان، سواءً من خلال فريق العمل الصغير الذي لا يزال موجوداً، او من خلال التواصل عن بُعد، والذي تكثّف بشكل كبير في الفترة الاخيرة.
وحرص الصندوق على مواكبة مشروع الموازنة، وقرار زيادة «رواتب» موظفي القطاع العام، وقدّم النصح في هذا المجال. وهذا ما يفسّر تمسّك الحكومة بمبدأ تقديم حوافز وعطاءات مالية للموظفين من خارج سياق الراتب، لتخفيف الأعباء التي تفرضها الزيادات على الرواتب، ولفتح المجال امام الإصلاحات ومن ضمنها اعادة هيكلة القطاع العام في المرحلة المقبلة.
كذلك واكب الصندوق ولادة خطة إعادة الانتظام الى القطاع المصرفي، وردود الفعل الرافضة لها. وبعدما شعر الصندوق بأنّ الخطة سقطت، عقد اجتماعات مكثفة مع كل الاطراف المعنية، للوقوف على مواقفها وتصوراتها للمعالجة، وتقديم بديل من الخطة التي سقطت عملياً.
وفي المعطيات، انّ اندفاعة الصندوق ليست بعيدة من الإصرار الاميركي على ضرورة تسريع الحلول التي تتيح الخروج من الوضع القائم، خصوصاً الاقتصاد النقدي (cash economy). وتدرك واشنطن انّ اعادة البلد الى الرقابة المالية الشرعية لن تحصل قبل عودة المصارف الى دورها الطبيعي. وكل المحاولات التي قامت بها الولايات المتحدة للحدّ من مخاطر الاقتصاد النقدي لا تبدو مجدية، بل انّ الوفد الاميركي الذي زار بيروت سمع تحذيرات واضحة، من انّ زيادة الضغط على الاقتصاد الشرعي، والتلميح بوقف تعاون المصارف المراسلة مع القطاع المالي اللبناني، سيؤديان الى نمو اضافي في السوق الموازي غير الشرعي، وسيؤدّي ذلك الى ضرب الاقتصاد اللبناني اكثر مما هو مضروب، من دون أن يثمر ذلك تخفيف مخاطر التبييض لتمويل الارهاب، وهو الهدف الاول للأميركيين بحسب "الجمهورية".
من هنا، سوف نشهد في الفترة المقبلة المزيد من النشاط الذي سيقوم به صندوق النقد الدولي، وستكون هناك دعوات لشخصيات لبنانية مؤثرة في القرار المالي والاقتصادي، لزيارة مقر الصندوق في واشنطن وعقد محادثات مع المسؤولين عن الملف اللبناني. وسيختار الصندوق الشخصيات المدعوة بعناية، حيث بات معروفاً انّ أي حل يحتاج الى مراعاة ملف المودعين، بحيث انّه يتعذّر اقرار اية خطة غامضة في موضوع الودائع. كذلك ستكون الأولوية لإعادة المصارف الى عملها الطبيعي، وهذا يعني انّ أي حل طويل الأمد في دفع الودائع، ستتّم إحالته الى مؤسسة خاصة، بهدف تسريع تحرير ميزانيات المصارف من الالتزامات، للانتقال الى مرحلة تطبيع السوق المالي.
وفي الأثناء، ستكون واشنطن على الخط لمراقبة ما يجري على هذا الصعيد، خصوصاً انّ زيادة الضغط على لبنان، والتلميحات بوضعه على اللائحة الرمادية في اجتماع (FATF) المقبل، سيزيد في تعقيدات السوق، وسيسمح بتوسّع اضافي في الاقتصاد النقدي، وليس العكس.