تؤثر الاضطرابات العصبية، مثل الإدمان، والاكتئاب، واضطراب الوسواس القهري OCD، على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم، وغالبًا ما تتميز بأمراض معقّدة تشمل مناطق ودوائر متعدّدة في الدماغ.
ومن المعروف أن هذه الحالات يصعب علاجها بسبب الطبيعة المعقّدة وغير المفهومة لوظائف الدماغ، والتحدّي المتمثل في توصيل العلاجات إلى هياكل الدماغ العميقة من دون إجراءات جراحية.
يتطور مجال علم الأعصاب بسرعة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، ويعدّ تحفيز الدماغ غير الجراحي أملًا جديدًا لفهم وعلاج عدد لا يُحصى من الحالات العصبية والنفسية من دون تدخل جراحي أو زراعة. وفي هذا السياق، نجح باحثون في مدرسة "البوليتكنيك" الفيدرالية في "لوزان" Ecole Polytechnique Fédérale de Lausanne في اختبار تقنية جديدة للتعمّق في الدماغ البشري، من دون الحاجة للجراحة، وذلك لأغراض علاجية محتملة.
تستهدف الأبحاث، التي تستفيد من التحفيز الكهربائي بالتداخل الزمني عبر الجمجمة tTIS، على وجه التحديد مناطق الدماغ العميقة التي تعدّ مراكز التحكّم في العديد من الوظائف المعرفية المهمّة وتشارك في أمراض عصبية ونفسية مختلفة.
ويسلّط البحث، الذي نُشر في مجلة Nature Human Behaviour، الضوء على النهج متعدّد التخصصات الذي يدمج الطب وعلم الأعصاب والحساب والهندسة لتحسين فهمنا للدماغ وتطوير علاجات قد تغيّر الحياة.
وقال البروفسور فريدهيلم هاميل، المسؤول عن البحث: "لقد تمّ بالفعل تطبيق التحفيز العميق للدماغ DBS بنجاح على مراكز التحكّم العصبية العميقة من أجل الحدّ من الإدمان وعلاج مرض باركنسون، أو الوسواس القهري، أو الاكتئاب".
والفرق الرئيسي بين النهج الذي نتبعه هو أنه غير جراحي، ما يعني أننا نستخدم تحفيزًا كهربائيًا منخفض المستوى على فروة الرأس لاستهداف هذه المناطق.
كما شرح بيير فاسيلياديس، المؤلف الرئيسي للورقة البحثية: عن تقنية tTIS بأنه يستخدم زوجين من الأقطاب الكهربائية المتصلة بفروة الرأس لتطبيق مجالات كهربائية ضعيفة داخل الدماغ.
ويكمل فاسيلياديس بالشرح، حتى الآن، لم نتمكن من استهداف هذه المناطق على وجه التحديد بتقنيات غير جراحية، حيث أن المجالات الكهربائية منخفضة المستوى من شأنها أن تحفّز جميع المناطق الواقعة بين الجمجمة والمناطق العميقة، ما يجعل أي علاجات غير فعّالة. ويوضح أن هذا النهج يسمح لنا بتحفيز مناطق الدماغ العميقة بشكل انتقائي والتي تُعتبر مهمّة في الاضطرابات النفسية العصبية.
تعتمد هذه التقنية المبتكرة على مفهوم التداخل الزمني، الذي تمّ استكشافه في البداية في نماذج القوارض، والآن تمّت ترجمته بنجاح إلى تطبيقات بشرية بواسطة فريق EPFL.
في هذه التجربة، تمّ ضبط زوج واحد من الأقطاب الكهربائية على تردّد 2000 هرتز، بينما تمّ ضبط زوج آخر على 2080 هرتز. بفضل النماذج الحسابية التفصيلية لبنية الدماغ، يتمّ وضع الأقطاب الكهربائية خصيصًا على فروة الرأس لضمان تقاطع إشاراتها في المنطقة المستهدفة.
في هذه المرحلة يحدث سحر التداخل: يصبح التباين الطفيف في التردّد بمقدار 80 هرتز بين التيارين هو تردّد التحفيز الفعّال داخل المنطقة المستهدفة. ويكمن تألّق هذا الأسلوب في انتقائيته، الترددات الأساسية العالية (على سبيل المثال، 2000 هرتز) لا تحفز النشاط العصبي مباشرة، ما يترك أنسجة المخ المتداخلة غير متأثرة ويركّز التأثير فقط على المنطقة المستهدفة.
ويركّز هذا البحث الأخير على المخطط البشري، وهو لاعب رئيسي في آليات المكافأة والتعزيز، ومن خلال تحفيز الجسم المخطط بتردّد 80 هرتز، وجد الفريق أنهم يستطيعون تعطيل عمله الطبيعي، ما يؤثر بشكل مباشر على عملية التعلم.
تُعتبر الإمكانات العلاجية مهمّة، بخاصة بالنسبة لحالات مثل الإدمان واللامبالاة والاكتئاب، حيث تلعب آليات المكافأة دورًا أساسياً.
في حالة الإدمان، على سبيل المثال، يميل الناس إلى الإفراط في تناول المكافآت، يرى الباحثون أن طريقتهم يمكن أن تساعد في تقليل هذا التركيز المرضي المفرط.
علاوة على ذلك، يستكشف الفريق كيف يمكن لأنماط التحفيز المختلفة ألّا تعطل وظائف المخ فحسب، بل يمكنها أيضًا تعزيزها.
ويرى الباحثون المشاركون في البحث، أنّه يُظهر نتائج واعدة في تحسين السلوك الحركي وزيادة نشاط الجسم المخطط، بخاصة عند كبار السن الذين يعانون من انخفاض قدرات التعلّم، معتبرين أن هذه التكنولوجيا بداية فصل جديد في تحفيز الدماغ، حيث تقدّم علاجًا شخصيًا بطرق أقل تدخّلاً، إنهم ينظرون إلى نهج غير جراحي.