سأبدأ مع بداية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل بتدوين ما أتذكره من ثلاثة مواقع فريدة، أسجل عنها ما أتذكره من أحداث، ومن مسارات تاريخية في قراراتها تمس حياة الكويت، وتنطق بمصالحها وتدافع عن مواقفها، وتتبنى نهجاً تولّد من قناعات القيادة، بأنه السبيل المناسب لتأمين مصالح الكويت، لاسيما في الفترة التي أعقبت مباشرة استقلال الكويت، وما أفرزه إعلان الاستقلال من أزمة تهدّد وجود الكويت كدولة وككيان وهوية، وتتجنى على تاريخها، وتجرح كبرياء الشعب الكويتي.
جاء الشيخ صباح الأحمد الجابر وزيراً للخارجية في عام 1963، وفي كانون الأول/ ديسمبر من عام 1963 عقدت اللجنة العربية المتابعة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، والتابعة للجامعة العربية، اجتماعها في القاهرة، ومن مفاجآت الحياة، كلفتني وزارة الخارجية رئاسة وفد الكويت، لحضور ذلك الاجتماع الذي يهم الجميع، لاسيما الدول العربية التي تستضيف اللاجئين، سوريا والأردن ولبنان ومصر، فجاءت مفاجأة الجلسة الأولى، حيث وزّع مندوب مصر مذكرة تقول إن هناك بعثة أسترالية تلتقي في أحد فنادق الكويت بالفلسطينيين، بحثاً عن المواهب المناسبة لإغرائها بالهجرة إلى أستراليا.
فوجئت بهذا السلوك، الذي لا يتناغم مع العلاقات بين البلدين، وكان بإمكان سفارة مصر إبلاغ المسؤولين الكويتيين، وينتهي الأمر.
كانت ردة الفعل عتاباً قوياً، عبّر عنه معالي الوزير الشيخ صباح الأحمد في اجتماعه مع السفير المصري، وانتهى الموضوع بتأكيد النوايا الحسنة، وعدت إلى الكويت مبلغاً الوكيل، المرحوم عبدالرحمن العتيقي، بالتفاصيل، فأخذني إلى مكتب الوزير لألتقي بالشيخ صباح الأحمد لأول مرة في حياتي، وبعدها عملت رئيساً لمكتب الوكيل، ثم انتقلت مديراً لمكتب الوزير، وبقيت فيه سبع سنوات من كانون الثاني/ يناير 1964 إلى أيلول/ سبتمبر 1971.
في هذه الفترة تكاملت خريطة الدبلوماسية الكويتية، التي وضعت أكبر أهدافها تطبيع العلاقات مع العراق، بعد سقوط قاسم في فبراير 1963، وتبادل الزيارات بين المسؤولين في البلدين.
حمل الشيخ صباح هذا الملف كأولوية، فقد زار بغداد بعد تشكيل حكومة الثورة مباشرة، وصدر منها بيان يشطب أساليب عهد قاسم وادعاءاته، مع تحوّل كويتي كامل يضع العلاقات الكويتية - العربية العمود الفقري لانطلاق العمل الدبلوماسي الكويتي، وفوق ذلك، انفتح الشيخ صباح في مساعيه الحميدة، متطوعاً للتوسط في الخلافات العربية، مؤمناً بأن هذا حظ الكويت وقدرها، ومسخراً حياته وما يتوافر له من الكويت لتأمين نجاح مهماته.
ومن هذه القناعات، التي تسيدت الملفات العربية جهود الكويت واحتضانها للهموم العربية، نقلت الكويت في علاقاتها مع بريطانيا من حليف تاريخي إلى صديق يشغل مكانة في حياة الكويت، لكن صفحاته طويت مع انضمام الكويت للجامعة العربية في يوليو 1961، وكان قرارها شبه مشروط بأن أمن الكويت والحفاظ على سيادتها واستقلالها شأن عربي، لا يسمح بالتسلل الأجنبي للشأن الكويتي.
هذه الفترة التي قضيتها في مكتب الوزير، تسيدتها العلاقات الثنائية مع العراق، ومبادرات الشيخ صباح الأحمد لابتكار مقترحات وأفكار لطرحها في توسطاته العربية، وأهمها مساعيه لتطويق وحل المواجهات بين مصر الثورة والمملكة العربية السعودية.
في عام 1971، ذهبت إلى الأمم المتحدة مندوباً دائماً للكويت فيها، وكنت أذهب بمعية الشيخ صباح لحضور الدورات السنوية للأمم المتحدة، فكنت على اطلاع عام دون تفاصيل، على أسلوب العمل، لكن الأهم في برامج المنظمة هو التواجد الدولي في قاعاتها، وحضور القيادات الدولية للتعبير عبر الخطب عن مواقفها تجاه الأوضاع العالمية.
وهناك تشعر الدول وممثلوها بأن العالم متشابك ومتداخل في مصالحه، وأن المهمة الكبرى تأمين السلام عبر حلول للمشاكل، والتركيز على التنمية، وأن الاستقرار والأمن العالمي لا يتجزآن.
ومع ذلك، ورغم هذا الإدراك للترابط بين الشعوب، فإن الأمم المتحدة هي صراع المصالح بين الدول، فلا توجد أيديولوجيات في ملفاتها، ولا مصطلحات، مثل الأمة العربية ووحدة أفريقيا، فالتركيز على المنافع التي تريدها الدولة والوطن.
توجد اهتمامات حول بناء جدار السلام العالمي، لكن لا اتفاق على آليات الوصول إليه، ولا تفاهم حول محتوياته، وهذه الحقائق لا تبرز كثيراً في الخطب العامة للدول، وإنما هي جدول أعمال اللجان المختلفة، فصوت الدولة المستقلة، مهما كان حجمها، ومهما كانت دبلوماسيتها، يعلو في اللجان معبّراً عن همومها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ومن أهم محتويات الأمم المتحدة هي تأكيد سيادة الدولة، فالوحدة في الأمم هي التنسيق بين الدول، وليس الضم أو غياب السيادة، والمجموعة العربية هي تجمّع دول عربية تتحدّث عن تنسيق المواقف تجاه قضايا تتواجد في ملفات الجامعة العربية، كقضية فلسطين واللاجئين، وأهم درس يحصده من يعمل فيها هو صون هوية الدولة، وتوسيع الفوائد التي تحصدها من عضوية الأمم المتحدة.
لم يأت على بالي مطلقاً الانتقال إلى مسار آخر من العمل الدبلوماسي، كنت أريد البقاء سنتين، ثم أخرج من السلك الدبلوماسي، لكن الإرادة السماوية حملتني إلى مجلس التعاون في الرياض، وهنا نفتح الملف الثالث، تمثّل في بقائي اثنتي عشرة سنة أميناً عاماً،
عدت بعد الأمم المتحدة إلى الكويت، وجاءت رحلة الشيخ صباح الأحمد إلى موسكو في أبريل 1981 لإحاطة الاتحاد السوفيتي بقرار دول الخليج، إقامة مجلس التعاون بين دول الخليج الستة، وكانت الجلسة مع جروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، عبارة عن مناقشة مفتوحة عن العلاقات السوفيتية ـ الخليجية، مع ترحيب جروميكو بمجلس التعاون، ودعمه إذا التزم بالمبادئ التي تشكل قاعدة الدبلوماسية الكويتية، فكان جواب الشيخ صباح تأكيد التفاهم بين دول الخليج، باتباع النهج المستوحى من مسار الكويت.
في 25 مايو 1981، وقّع قادة الدول الخليجية الستة على وثيقة قيام مجلس التعاون، وهي مجموعة مبادئ عامة تؤكد التعاون بين هذه الدول في جميع المسارات، لكنها تصر على إبراز الملف الاقتصادي والتجاري، والوثيقة لا تذكر أي شيء عن التعاون الأمني أو الدفاعي، فكل التوجّه والتأكيد على القضايا الاقتصادية، وهدفها التعاون، ولعل ذلك يعود إلى وحدة المواقف، وليست الوحدة التي تلغي السيادة والهوية.
كانت الوثيقة ترجمة لما تجمع عليه الدول، جاء الملك خالد بن عبدالعزيز إلى أبوظبي، ليمثّل المملكة العربية السعودية، رغم متاعبه الصحية، تعبيراً عن إيمان المملكة وتصميمها على دعم مسيرة المجلس، كما شارك في الاجتماع الثاني للقمة في الرياض في تشرين الثاني/ نوفمبر 1981، وكان يعاني صحياً، وأتذكر حديثه معي بأن أقدّم محتويات ملف القمة وفق الترتيبات التي وضعها وزراء الخارجية، وليس له اعتراض على أي من ملفاتها، وكانت تلك القمة آخر قمة يشارك الملك خالد فيها، حيث انتقل إلى رحمة الله بعدها.
هذه المحطات الثلاث ستخرج في كتاب، أبدأ به في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وأعتقد أنني قادر على صياغته والانتهاء منه بعد عام من البداية.
وآمل أن تطعمني الذاكرة بكثير من التفاصيل، التي أرى فيها فائدة تسجيلها في صفحات الكتاب المقبل.