خطورة الحديث عن حرب عالمية ثالثة

فى خطابه بحفل قبول ترشحه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، صباح يوم الجمعة 19 يوليو الماضى، بمدينة ميلووكى (ولاية ويسكنسن)، استعرض الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، والمرشح الحالى، الأزمات الدولية والإقليمية الراهنة، بدءا من الحرب الروسية الأوكرانية وانتهاء بالحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، مرورا بأزمات أخرى عدة، ليحذر من وقوع «حرب عالمية ثالثة». وأعاد ترامب التحذير نفسه فى التاسع من أغسطس الحالى.

الحديث عن حرب عالمية ثالثة لم يعد من المحظورات الأكاديمية أو السياسية؛ إذ أصبحت هذه الحرب من السيناريوهات المطروحة فعلا. يستند هذا السيناريو إلى حزمة من التحولات الإستراتيجية شديدة الأهمية والخطورة، والتى ترقى إلى مستوى المقدمات أو الشروط الضرورية لهذه الحرب. أولى تلك المقدمات تتعلق بما ذهبت إليه بعض نظريات العلاقات الدولية حول طريقة الانتقال فى النظام العالمي، والتى تذهب إلى أن هذا الانتقال يتم عبر مواجهة «حتمية» بين القوة المهيمنة على النظام الدولى والقوة الصاعدة، عندما تصل العلاقة بين الطرفين إلى مستوى يصعب معه إدارة هذه العلاقات وفق القواعد المستقرة دوليا، وهو ما ينطبق فعلا على مساحة كبيرة فى العلاقات الأمريكية ــ الصينية الراهنة.

إذ على الرغم من تمسك الطرفين بالحفاظ على مستوى من اللغة المشتركة، والتواصل المباشر، إلى الحد الذى يجنبهما الانزلاق إلى المواجهة العسكرية المباشرة، ويتسق مع ذلك تمسك الوثائق الإستراتيجية الأمريكية بوصف الصين بـ«المنافس الإستراتيجى»، فإن هذا لا ينفى غلبة السمة الهيكلية على القضايا موضوع الخلاف، بدءا من قضية تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وشروط وقواعد التجارة العالمية، وتغير خريطة النفوذ الصينى التى اتسعت داخل العديد من الأقاليم على حساب الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا وآسيا. ومن ثم، فإن اللغة المشتركة والتواصل المباشر بين الطرفين قد لا يعدو كونه جزءا من استراتيجية واعية لديهما لتأجيل هذه المواجهة «الحتمية» على المدى القصير، وإزاحتها إلى أقصى مدى زمنى ممكن، أو لحين الاستعداد لهذه المواجهة فى توقيت مؤجل.

يرتبط بذلك، تحول آخر مهم يتعلق باتجاه الولايات المتحدة إلى هندسة مسرح استراتيجى جديد سيكون هو المسرح الرئيسى لهذه الحرب، حالة حدوثها، هو مسرح الإندوباسيفيك (منطقة المحيطين الهادى والهندي)، كبديل لمفهوم منطقة «آسيا ــ المحيط الهادى» الذى حكم العلاقة بين القوى الدولية الرئيسية فترة طويلة.

وقف وراء استحداث هذا المسرح كل من الولايات المتحدة بالتعاون مع اليابان والهند وأستراليا، لحق بها أطراف أخرى عدة، بما فى ذلك حلف الناتو والعديد من القوى الأوروبية. ورغم حرص بعض هذه القوى على عدم جر المنطقة إلى أى مواجهات عسكرية، وتمييزها بين توسيع وتعزيز أدوارها الإقليمية فى هذا المسرح الجديد، والتماهى مع الرؤية الأمريكية، فإن هذا لا يمنع أيضا من أهمية عدد من الظواهر الإستراتيجية التى تكرست خلال السنوات السبع الأخيرة فى هذا المسرح، خاصة تعميق التحالفات العسكرية والأمنية القائمة (التحالف الأمريكي ــ الياباني)، أو استحداث تحالفات أمنية وعسكرية جديدة (QUAD, AUKUS).

وفى الاتجاه نفسه، هناك اتجاه لبناء محور مقابل، يضم الصين وروسيا وكوريا الشمالية، استنادا إلى معاهدة الصداقة والتعاون والدعم المشترك بين الصين وكوريا الشمالية الموقعة فى عام 1961، والمعاهدة المماثلة بين روسيا وكوريا الشمالية، وسعى الأخيرة إلى تقديم نفسها كقوة رئيسية فى النظام الدولى استنادا إلى قدراتها النووية والصاروخية، وكحليف يمكن الوثوق به من جانب الصين وروسيا، خاصة فى مسرح الإندوباسيفيك.

أضف إلى كل ذلك تآكل القواعد المنظمة للنظام العالمى، والتباين المتزايد بشأن تحديد وتعريف هذه القواعد. من ذلك، على سبيل المثال، حديث الولايات المتحدة وحلفائها المتكرر عن ضرورة الحفاظ على «النظام القائم على القواعد» «rule-based international order»، لكن يظل هناك خلاف كبير بين هؤلاء من ناحية، والصين وحلفائها، من ناحية أخرى، حول طبيعة ومفهوم هذا النظام، وماهية القواعد التى يستند إليها.

هذه المقدمات لا تمثل شروطا كافية لوقوع «حرب عالمية ثالثة»؛ إذ يوجد فى المقابل ما قد يدفع هذه التحولات فى اتجاه معاكس، إذ لا يمكن القطع بحتمية حدوث الانتقال فى النظام العالمى عبر المواجهة العسكرية بين الأطراف المتنافسة على قمة النظام، حيث يعتمد هذا السيناريو على متغيرات عدة، منها طبيعة القوة الصاعدة نفسها، ودرجة الرضا لدى نخبتها الحاكمة عن وضع دولتها داخل النظام العالمى. كما تختلف طبيعة النظام الدولى الراهن عن طبيعة الأنظمة السابقة التى انهارت من خلال وقوع المواجهات العسكرية؛ إذ بلغ حجم التعقيد والاعتماد الاقتصادى المتبادل بين الفاعلين الدوليين ــ بما فى ذلك بين المتنافسين الرئيسيين ــ درجة يصعب معها حسم الصراع عبر المواجهات العسكرية. بل إن المواجهات العسكرية نفسها لم تعد أداة كافية لحسم العديد من هذه الصراعات (الحرب الروسية ــ الأوكرانية مثالا مهما فى هذا السياق).

لكن الأخطر هو حديث ترامب عن سيناريو الحرب العالمية الثالثة. مبعث الخطورة هنا أن ترامب نفسه لعب دورا مهما فى تدشين حالة التوتر فى علاقات الولايات المتحدة مع الصين، إذ ساهم ترامب فى تدشين مسرح الإندوباسيفيك، من خلال التوسع فى استخدام المفهوم، وتضمينه داخل الوثائق الإستراتيجية الأمريكية، بدءاً من وثيقة «استراتيجية الأمن القومى» الصادرة فى ديسمبر 2017، ثم وثيقة «استراتيجية الدفاع الوطنى» الصادرة فى يناير 2018، وإحياء الحوار الأمنى الرباعى QUAD مع اليابان والهند وأستراليا فى نوفمبر 2017، وبدء ما عُرف بحرب الرسوم الجمركية بين البلدين فى منتصف عام 2018، وتحويل جائحة كوفيد-19 إلى موضوع خلاف كبير بين البلدين. صحيح أن إدارة جو بايدن قد بنت على هذه المبادرات والسياسات وأخذتها فى اتجاه أكثر تصعيدا مع الصين، لكن تدشينها يعود إلى ترامب. من ناحية ثانية، فإن الحديث عن مثل هذه الســـيناريوهـات يثير ما يُعرف بالنبوءات المحققة لذاتها self- fulfilling prophecy. ذلك أن التركيز على سيناريو «الحرب العالمية الثالثة» قد يدفع بالقوى الدولية والإقليمية إلى تبنى سياسات محددة للتعامل مع هذا السيناريو المحتمل، مثل تسريع عمليات التحديث العسكري، وزيادة حجم الإنفاق العسكري، والتوسع فى بناء وتعميق التحالفات العسكرية والأمنية.. إلخ، الأمر الذى قد يدفع إلى وقوع هذه الحرب فعلا فى لحظة بعينها، خاصة أن مثل هذه السياسات ستعمق «عسكرة» العديد من المسارح الدولية، و«عسكرة» التفاعلات الدولية بشكل عام، فضلا عن تعقيد فرص تسوية الأزمات الإقليمية البعيدة نسبيا عن قمة النظام العالمي، وتحويلها إلى حروب بالوكالة.

نجاح ترامب فى الانتخابات الرئاسية المقبلة لا يعنى أننا سنكون بالضرورة أمام نفس نسخة ترامب (2017 - 2021)، حيث قدرا من التغيير والمراجعة قد يحدث، لكن هذا لا ينفى الخطر القائم فى حالة الاستمرار فى السياسات الدولية الجارية، أو التوسع فى الحديث عن حرب عالمية ثالثة، وعندها سيكون السؤال متى تقع هذه الحرب؟

الحديث عن حرب عالمية ثالثة لم يعد من المحظورات الأكاديمية أو السياسية؛ إذ أصبحت هذه الحرب من السيناريوهات المطروحة فعلا. يستند هذا السيناريو إلى حزمة من التحولات الإستراتيجية شديدة الأهمية والخطورة، والتى ترقى إلى مستوى المقدمات أو الشروط الضرورية لهذه الحرب.

الأهرام

يقرأون الآن