يمكن القول إن اللقاء الذي جمع بين المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان ومعه فريقه الوزاري والتنفيذي والسياسي، والذي يعتبر الأول مع انطلاق عمل الحكومة الجديدة، رسم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة، وحدد الأولويات التي عددها في 13 نقطة، من المفترض أن تشكل صلب اهتمام هذا الفريق وخطة عمله على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية وحتى الدبلوماسية.
وعلى رغم التركيز الواضح في كلام المرشد على الجانب الاقتصادي والإصلاحي في الداخل، وضرورة تركيز الاهتمام لحل الأزمات التي تعانيها إيران بخاصة الاقتصادية، إلا أن النقطة ما قبل الأخيرة التي أشار إليها المرشد والتي قد تشكل مفتاحاً أساسياً ومحورياً لأي عملية إصلاحية وإنقاذية، كانت واضحة بدلالاتها وارتباطها بالحوار مع المجتمع الدولي.
المرشد الأعلى للنظام أشار إلى عدم تعارض "الحوار مع العدو" مع المبادئ والأصول التي تقوم عليها سياسة النظام في التعامل مع القوى الخارجية، وقد يكون هذا الموقف الأول من نوعه في الوضوح والمباشرة وأن المقصود من هذا التوصيف لا يبتعد من الإشارة إلى إمكان الحوار مع الولايات المتحدة التي تحتل المركز الثاني على لائحة أعداء النظام الإسلامي الإيراني وثورته بعد إسرائيل.
أن تكون توجيهات المرشد الأعلى للحكومة في بداية انطلاق عملها، بخاصة على المستوى الدبلوماسي والعلاقات الخارجية، بهذا الوضوح، وأن يشير إلى المواقف التي صدرت عن رئيس الجمهورية ووزير الخارجية الجديد عباس عراقجي حول انفتاح الحكومة الجديدة على الحوار مع جميع القوى والأطراف والعمل على إعادة إحياء الاتفاق النووي وإنهاء العقوبات، يعني أن هذه المواقف تنسجم مع الإطار العام للسياسات العليا للنظام التي تصدر عنه، وأن تطوير هذا المسار لا يتعارض مع هذه السياسات والطموحات.
هذا الضوء الأخضر الذي يفتح الطريق أمام الحكومة الجديدة لاتخاذ خطوات جدية متعلقة بإمكان الحوار مع الولايات المتحدة، يؤشر إلى مرحلة جديدة من العقلانية بدأت عوارضها تظهر بصورة واضحة على مواقف قيادة النظام، خصوصاً أن دوائر الدولة العميقة لم تتخذ موقفاً صارماً أو معارضاً من الشعارات التي رفعها مرشح الانتخابات الرئاسية بزشكيان قبل حسم النتائج وإعلانه رئيساً للجمهورية ومسؤولاً عن إدارة السلطة التنفيذية المولجة تطبيق سياسات النظام الداخلية والخارجية. وهو الضوء الأخضر الذي سبق أن منحه المرشد للحكومة السابقة بقيادة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، إلا أنها لم تستطِع استغلال الفرصة وخضعت للموقف الأيديولوجي والجماعات الرافضة مثل هذا الحوار.
التلاقي بين رغبة الحكومة الجديدة أو السلطة التنفيذية بالإصرار على أولوية الحوار من أجل الخروج من دائرة العقوبات، وتكرار المرشد الأعلى موقفه الإيجابي من إمكان هذا الحوار، لم يكن بصورة مطلقة، بل سعى المرشد إلى وضع محددات أمام هذا الأمر بما ينسجم مع الموقف العام للنظام، من خلال التأكيد على أن هذه الحكومة "يجب ألا تعقد الآمال على العدو وأن تنتظر ما سيقوم به، طبعاً هذا لا يتعارض أن تتعامل معه في مرحلة ما، إلا أن المشكلة هي أنه يجب ألا نعقد الآمال عليه (العدو) والثقة به".
ويبدو أن أرضية هذا التوجه والنية الجدية لدى المرشد بفتح الطريق أمام الحكومة للانطلاق في عملية الحوار، وما يعنيه ذلك من استئناف جدي للحوار مع الولايات المتحدة، وهي أرضية أو نية عبّرت عنها عودة وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف للفريق الحكومي والموقع الذي أُسند إليه قبل استقالته كمعاون للرئيس في الشؤون الاستراتيجية، ليشكل فريقاً مع مساعده السابق وزير الخارجية الحالي عباس عراقجي لقيادة هذا الحوار وهذه المفاوضات.
من هنا، فإن التقديرات لضرورات المرحلة المقبلة، والآليات التي سيكون على الفريق التفاوضي الإيراني القيام بها، لا بدّ من أن تكون منسجمة مع الإطار العام الذي رسمه المرشد الأعلى وأعطى الضوء الأخضر للانطلاق به، مما يعني أن المرحلة المقبلة قد تنتقل وبصورة سريعة وغير متعجلة إلى الحوار المباشر بين المفاوض الإيراني والمفاوض الأميركي، وهي مفاوضات قد تكون محصورة في المرحلة الأولى في المسائل المتعلقة بأزمة الاتفاق النووي وآليات إخراج إيران من دائرة العقوبات الاقتصادية.
وقد لا يكون الفريق الإيراني المفاوض يملك الصلاحية في توسيع دائرة المفاوضات لتشمل الملفات الإقليمية في هذه المرحلة، بخاصة أن الموقف الإيراني من الدخول في هذا المسار التفاوضي يبدو أنه ما زال مرتبطاً بالخطوة الحاسمة لقيادة النظام العليا والعسكرية من مسألة الرد على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وما أنتجته من انتهاك للسيادة والأمن القومي الإيرانيين، خصوصاً أن المرشد، وفي الإشارة الوحيدة التي جاءت في كلامه مع الحكومة، تمحورت حول العمق الاستراتيجي لإيران وقوتها الإقليمية التي تعتبر أحد أبعاد القدرات الإيرانية.
الانتقال إلى الحوار المباشر بين طهران وواشنطن لا يعني الذهاب إلى عملية تطبيع العلاقة بين الطرفين، بخاصة من الجانب الإيراني، أي حصر هذا الحوار بهدف التوصل إلى حلول وتفاهمات حول المسائل الخلافية المتعلقة بإعادة إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وطبيعة التعديلات التي من المتوقع إدخالها على هذا الاتفاق، لا سيما أن عراقجي سبق أن أشار إلى صعوبة إعادة إحياء اتفاق عام 2015 بالصيغة التي كان عليها.
وعلى رغم خروج أصوات تدعو إلى إعادة إحياء العلاقات بين طهران وواشنطن، في الأقل على المستوى القنصلي، إلا أن الواضح من موقف المرشد الذي تحدث عن "الحوار مع العدو" حول بعض المسائل، يجعل من هذه الخطوة مرتبطة بصورة مباشرة بمدى قدرة الطرفين على إعادة بناء جدار الثقة بينهما في المرحلة المقبلة.
ما يلفت في لقاء المرشد والرئيس ومعه الحكومة، غياب أي كلام عن الرد الإيراني على الاعتداء الإسرائيلي، فعلى رغم أن رئيس الجمهورية يشغل رئاسة المجلس الأعلى للأمن القومي، مما يعني بصورة واضحة أن المرشد سعى إلى التأكيد على الأولويات المطلوبة من هذه الحكومة، والفصل بين العمل الحكومي والداخلي والدبلوماسي والاقتصادي وبين العمل العسكري والأمني الذي لا يدخل في صلاحيات الحكومة أو السلطة التنفيذية، ويدخل في صلب الصلاحيات الحصرية للمرشد بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية والأمنية التابعة له والتي يتولى قيادتها العليا.
اندبندنت عربية