الكويت وبريطانيا.. مئة وخمسة وعشرون عاماً من الأفراح

نحتفل الآن في الكويت، وفي لندن، بمناسبة مرور مئة وخمس وعشرين سنة على توقيع اتفاقية الحماية بين الكويت وبريطانيا العظمى في 1899، حيث وقعها الشيخ مبارك الصباح باسم الكويت والممثل البريطاني في الخليج نيابة عن بريطانيا.

وتختلف نصوص الاتفاقية الكويتية - البريطانية عن تلك، التي وقعتها إمارات الخليج، حيث أضيف إلى ما جاء في النص الخليجي تعهد بريطانيا بحماية الكويت، والحفاظ على استقلالها وصون وحدة ترابها، وفوق ذلك، حماية سلطة مبارك في حكم الكويت، وتأمين تواصل ذريته في إدارة الدولة.

وكانت تلك الكلمات مدخلاً للتساؤلات، لأن أوضاع السلطة العثمانية في العراق غير مستقرة، بما في ذلك تواجدها في الإحساء، والحقيقة أن الشيخ مبارك كان يملك حساً أمنياً لم يتواجد بتلك الكثافة لدى من سبقوه في الحكم، فأغلق جميع المسارات، التي كان يتخوف منها، ولم تكن بريطانيا تريد أكثر من تعظيم الاطمئنان في الخليج، ومن دون تدخلات خارجية تؤثر على سلامة الملاحة إلى مستعمراتها في الهند، فلم تجد في طلبات الشيخ مبارك ما يزعجها، والمهم أن تلك الاتفاقية أثبتت فعاليتها كدرع صانت الكويت، وحافظت على استقلالها، وتصدت لجميع النوايا العدوانية، التي جاءت من غارات قبائلية ومن غيرها، وتمكنت بريطانيا من خلال مطاردتها جواً وبحراً من إفشال جميع المحاولات العدائية تجاه الكويت، وأثبتت صدق التزاماتها في جميع الظروف الخطرة، التي شهدتها الكويت، بما فيها الاستجابة لطلبات الشيخ عبدالله السالم بالدفاع عن الكويت لإفشال أطماع عبدالكريم قاسم في عام 1961 وادعاءاته بتبعية الكويت للعراق، ثم توجت سجلها المضيء في المشاركة وبقوة في تحرير الكويت عام 1991، وإخراس الأوهام المريضة تجاه الكويت.

ومما يميز الالتزام البريطاني شموليته لدى جميع الأحزاب، في الحكم أو المعارضة، مدعوماً بإجماع شعبي، الأمر الذي ميّز العلاقات بالاستقرار واليقين، ومكّن الطرفين من الوفاء بما تحتاجه الكويت من خبرات تساعدها في ملاحقة التطور الأمني والإداري والاقتصادي، ومن هذا الواقع تواجدت الخبرة البريطانية في اكتشافات مخازن النفط المودعة في تراب الكويت، ومنها تشق الكويت دروبها في التجديد والتطور والانفتاح، وتستفيد الكويت من موقع لندن للانطلاق في مسار الاستثمار، بفتح مكتب كويتي تحول إلى هيئة مالية مؤثرة استفادت بريطانيا من تواجدها.

ومنذ التحرير، الذي ساهمت فيه بريطانيا بفاعلية، اتسعت العلاقات وتعدت المسارين السياسي والاقتصادي، لتشمل جميع الطرق وكل الدروب، تعليماً، وطبياً، وثقافة، وتجارة، وتصنيعاً، واتسعت الأبواب ليتواجد الجانب الأمني والدفاعي بقوة، وبموازاة ذلك، اتسعت التنوعات والمشاورات مع التنسيق في الأولويات، وانتقلت العلاقات إلى شراكة استراتيجية شاملة، تديرها لجنة عليا تجمع البلدين، وتلتقي كل ستة شهور لدراسة واقع العلاقات وما تحتاجه من إضافات، وبهذا تشكلت إدارة ثنائية تشرف على المجرى، الذي تسير فيه العلاقات بين البلدين.

ومنذ التحرير وتطور العلاقات إلى شراكة، تكثفت آليات التواصل، ومن أبرزها زيارة «دولة»، قام بها المرحوم الشيخ جابر الأحمد إلى بريطانيا، بدعوة من الملكة اليزابيث، وكذلك زيارة المغفور له الشيخ صباح الأحمد أمير الكويت في عام 2012، وكنتُ، ومعي أعضاء جمعية الصداقة الكويتية - البريطانية، ضمن الوفد الرسمي.

ساهمت هذه الزيارات في تعميق الترابط بين المسؤولين. وخلال الزيارة، كنتُ ألاحظ ابتسامات الملكة وانسجامها مع المرحوم الشيخ صباح الأحمد، الذي أدخل الزيارة في أجواء من العطر والنسيم الخاص.

هذا المناخ الخاص أوحى للقيادة الكويتية قرارها بتولي وزارة الإعلام ترتيبات خاصة، تعبّر عن مشاعر الكويت وما تختزنه من شعور بالعرفان والتقدير للدور البريطاني المميز، وتأكيد موقعه في تاريخ الكويت.

وستبدأ الاحتفالات في شهر سبتمبر الجاري بوفد كويتي إعلامي وفني، سيقدم في لندن عروضاً موسيقية تنقل لوحات من خزينة الكويت الثقافية والفنية، كما سيقوم مكتب الاستثمارات، الذي بدأ عمله في عام 1953، بترتيب حفل استقبال لجميع رجال الأعمال، يترجم التداخل الاقتصادي والمالي بين البلدين، ويسجل شعب الكويت بكثير من التقدير مستذكراً الدور البريطاني في حماية الكويت، ومقتنعاً بأن هذه الشراكة تضيف إلى الشعب الكويتي الكثير من اليقين بأن الكويت آمنة، وأن الشركاء واعون للحقائق التي مرت بها الكويت، ومدركون لحساسية جغرافيتها، ومتابعون لما يدور فيها من خصومات المختفي منها والظاهر، الناعم والغليظ، وهم أهل الخبرة في أزمات العالم، ومن الناصحين الصادقين بأن الردع ليس بسلاح الكلمات، وإنما بضجيج آلياته وحدة أسنانه.

في مسار العلاقات الكويتية - البريطانية الثنائية في الستينيات، وقد كنتُ مشاركاً في لقاءات المرحوم الشيخ صباح الأحمد مع سفراء بريطانيا، لا أستطيع أن أصف مسارها بالنسيم الدائم، وإنما مرت العلاقات بشيء من التساؤلات، لم تأت من الكويت، وإنما من مسببات تسللت من مواجهات عربية - إسرائيلية، ففي حرب 1967، كان موقف الكويت صلباً في تأمين حاجيات بريطانيا من النفط، وتكرر الموقف نفسه في حرب 1973، كما كان المرحوم الشيخ صباح السالم أمير الكويت 1965 ــ 1977، رافضاً اتهام الولايات المتحدة بالمشاركة في حرب 1967، الذي صدر من مفاجأة الهزيمة وحجمها، ورغم كل الهزات التي شهدها العالم العربي، فإن حرص البلدين على سلامة العلاقات بينهما وإبعادها عن الاتهامات والإشاعات كان مؤثراً وفاعلاً، وظل هذا الحرص مستقوياً مع الكثافة، التي زينت العلاقات بين البلدين منذ الغزو، وفتحت أسقف الصعود، الذي ظل مفتوحاً ومواكباً للتطورات.

وهنا أود الضغط بكثير من القناعة بأن الدبلوماسية الكويتية انتقلت من ذلك المسار، الذي أفرزه انضمام الكويت للجامعة العربية، مع التزامها الشديد بالشروط التي رافقت ذلك الانضمام، وهي الابتعاد عن التحالفات، ونقل ذلك القرار دبلوماسية الكويت إلى الحضن العربي، الذي تولى حمايته المرحوم الشيخ صباح الأحمد، وتعمق في تعرجاته، وانهمك في الوفاء لواجباته، وتطوع لحمايته والحفاظ على فاعليته عبر التوسطات، التي تحمّل شخصياً أثقالها.

كان الشيخ صباح الأحمد صادقاً في مشاركاته في الأعباء العربية، واختار الابتعاد عن العواصم الكبرى، ملتزماً بقواعد الأصول في مقابلات مسؤوليها، وكلها تحمل سلة الهموم العربية، وأبرز محتوياتها القضية الفلسطينية، التي كان الشيخ صباح يثيرها في كل لقاء مع المسؤولين في أوروبا وواشنطن، واستمر ذلك النهج حتى يوم الغزو المشؤوم، الذي قضى على تصوراته في عالم عربي مرتبط بحبال المودة والثقة المتبادلة.

والواقع أن الغزو نقل مجرى الكويت الدبلوماسي إلى الفناء العالمي، متجاوزاً خطوط الجامعة العربية إلى الفضاء العالمي المفتوح، ومع ذلك التحول، أصبحت الأولويات في مسار الكويت تأمين الردع مع الشركاء، الذين ساهموا في تحرير الكويت، واتسعت أبواب الدبلوماسية الكويتية في تحولاتها نحو جميع العواصم، لاسيما عواصم الدول الكبرى، التي أدخلت سلامة الكويت ضمن أولويات التزاماتها العالمية، ووفق هذا التحول تعمقت الروابط بين بريطانيا والكويت، وتعبيراً عن هذا الواقع، جاءت الاستعدادات للاحتفال بمرور مئة وخمسة وعشرين عاماً على توقيع اتفاق الحماية بين الكويت وبريطانيا.

سنظل بحاجة إلى بريطانيا، وإلى جدية التزاماتها الثنائية، وإلى خبراتها في الشؤون الأمنية، إلى أن تنضم المنطقة إلى ركب الاستقرار والتحضر السياسي والسلوكي والثقافي، وهو الجوهر الذي يزيل مسامير الغزو التي جرحتنا، وينتظره الأمن الإقليمي الجامع.

القبس

يقرأون الآن